[صغار الأمور وكبارها]
ـ[محمد عامر ياسين]ــــــــ[22 - 03 - 08, 01:37 م]ـ
[صغار الأمور وكبارها]
محمد الحمد
أخرج ابن عساكر عن الشعبي قال: "دهاة العرب أربع: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد، فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهات، وأما زياد فللكبيرة والصغيرة".
وقال الأصمعي: "كان معاوية -رحمه الله- يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم".
وجاء في كتب السير والأدب أن عبد الله بن قاسم بن طولون كاتب العباس بن أحمد ابن طولون قال: "بعث إليّ أحمد بن طولون بعد أن مضى من الليل نصفُه، فوافيته وأنا منه خائفٌ مذعور.
ودخل الحاجب بين يديّ وأنا في أثره، حتى أدخلني إلى بيتٍ مظلم، فقال لي: سلِّم على الأمير!
فسلّمت، فقال لي ابن طولون من داخل البيت وهو في الظلام: لأي شيءٍ يصلح هذا البيت؟ قلت: للفكر، قال: ولِمَ؟
قلت: لأنه ليس فيه شيءٌ يشغل الطرف بالنظر فيه.
قال: أحسنت! امض إلى ابني العباس، فقل له: يقول لك الأمير: اغدُ عليّ، وامنعه من أن يأكل شيئاً من الطعام إلى أن يجيئني؛ فيأكل معي، فقلت: السمع والطاعة.
وكان العباس قليل الصبر على الجوع؛ فرام شيئاً يسيراً قبل ذهابه إلى أبيه؛ فَمَنَعْتُه؛ فركب إليه، وجلس بين يديه، وأطال أحمد بن طولون عمداً، حتى علم أن العباس قد اشتدّ جوعه، وأُحْضِرت مائدةٌ ليس عليها إلا البوارد من البقول المطبوخة؛ فانهمك العباس في أكلها؛ لشدة جوعه، حتى شبع من ذلك الطعام، وأبوه متوقف عن الانبساط في الأكل، فلما علم أنه قد امتلأ من ذلك الطعام أمرهم بنقل المائدة، وأُحْضِر كلُّ لون طيّب من الدجاج، والبط، والجَدْي، والخروف؛ فانبسط أبوه في جميع ذلك، فأكل، وأقبل يضع بين يدي ابنه منه؛ فلا يمكنه الأكل؛ لِشِبَعه.
قال له أبوه: إنني أردت تأديبك في يومك هذا بما امتحنتك به؛ لا تلق بهمَّتك على صغار الأمور بأن تسهِّل على نفسك تناول يسيرها؛ فيمنعك ذلك من كبارها، ولا تشتغل بما يقلّ قدرُه؛ فلا يكون فيك فضلٌ لما يعظم قدره".
فما مضى ذكره من الأخبار إنما هو نزرٌ يسيرٌ مما ورد من هذا المعنى في كتب السير والتراجم.
وهذه الأخبار تشير إلى معانٍ عظيمةٍ قد تغيب عن بال كثيرٍ من الناس؛ فتجد من يشغله أتفه سبب؛ فتراه يغلق عليه ذهنه، ويأخذ بمجامع قلبه.
وقد يكون ذلك الإنسان عظيماً، أومؤهَّلاً للعظمة، ثم تراه يشغل نفسه بأمورٍ صغيرة، فتأخذ بلبِّه، وتشغل وقته، وتستنفد طاقته، وتقطعه عن مصالح كثيرة كبيرة، كحال بعض التجار -على سبيل المثال- حيث تراه يشغل نفسه بأمورٍ صغيرةٍ في ميدان تجارته، فتنال نيلها من أعصابه جهده، ووقته.
ولو أنه وكَلَ تلك الأمور الصغيرة إلى غيره ممن هم تحت يده، لكان خيراً، وأزكى لتجارته.
وقل مثل ذلك في شأن من يتولى ولاية، حيث ترى بعضهم يهلك نفسه في أمورٍ صغيرة، فإذا دهمته عظام الأمور لم يعد فيه بقية من جهدٍ لمواجهتها.
وترى في الناس من هو خلاف ذلك؛ فتجده لا يأبه للأمور اليسيرة، واللفتات الحانية، والجوانب الإنسانية التي ترفع من قدره، وتكمِّل عظمته، وتنهض بمروءته.
وترى مَن هذه حاله يعتذر لنفسه بأنه مشغول بأمورٍ عظيمةٍ كبيرة؛ لذا تراه لا يأبه بمحادثة الصغير، وملاحظة الغريب، والتواضع للمسكين.
والذي تقتضيه الحكمة أن يُفْرِغَ المرء نفسه لكبار الأمور، ولا ينسى -مع ذلك- أن يقوم بصغارها، من غير أن يعطيها أكبر من حجمها.
وهكذا كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان يقوم بالمصالح العليا، ويُعنى بشؤون الأمة، وبتبليغ الدعوة، والجهاد في سبيل الله.
ومع ذلك تراه يلاطف الصغير، ويجيب الدعوة، ويمازح أصحابه، ويكون في مَهَنَة أهله؛ فقد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، وجعل لكل مقامٍ ما يناسبه دون وكسٍ، ولا شطط.
ولم يكن أحدٌ يلهيه عن أحدٍ ... كأنه والدٌ والناسُ أطفالُ
ومن أعجب من رأيت في هذا العصر ممن يمثل هذا المعنى، ويسير على هذا النمط سماحة شيخنا الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-.
وهذا سرٌّ من أسرار عظمته وألمعيته، ولطائف سيرته، وأسباب تميزه، وحلوله في سواد العيون، وسويداء القلوب؛ ففي الوقت الذي يقوم فيه بجلائل الأعمال، من مراسلات لكبار المسؤولين، ومناصحة لرؤساء الدول، واستقبال للوفود من أعلى المستويات، وقيام بالدروس والفتوى، والردود على الأسئلة المتتابعة، ورئاسة الاجتماعات في الرابطة أو الهيئة، أو غيرها، ونحو ذلك من الأعمال التي يترتب عليها المصالح العامة للأمة ومع ذلك كله لا تراه يهمل دقائق الأمور، وصغارها؛ بحجة اشتغاله بما هو أهم، بل تراه يسمع سؤال المرأة، ويستقبل الفقير المسكين، ويجيب على سؤال الهاتف ولو كان يسيراً، بل تراه يداعب قائد سيارته، والعاملين معه، ويسألهم عن أحوالهم، وأحوال ذويهم، بل لا يُغْفِل الثناء على طباخ المنزل على الوجبات التي يعدها، ولا ينسى مداعبة الصغار، والقيام بحقوق الأهل، وهكذا كانت حاله مع الناس؛ فكل يعطيه حقه، وينزله منزلته.
و [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ].