تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وانطلاقاً مما مر، فقد اتفقت الأمة على أن الأحكام الشرعية التي كلف بها المسلم أنواع ومراتب، وليست على ميزان واحد، كما اتفق جمهور العلماء على انقسام مأمورات الشرع إلى واجبات ومستحبات، وانقسام منهياته إلى مكروهات ومحرمات. يقول مجد الدين ابن تيمية في المسودة: (اتفق الفقهاء والمتكلمون على أن أحكام الشرع تنقسم إلى: واجب، ومندوب، ومحرم ومكروه ومباح) (10).

ولأن الواجب على المسلم أن يضع كل أمر شرعي موضعه، ولايخلط بين أنواع الأحكام أو يتعامل معها كيفما اتفق، فقد بين العلماء ـ والأصوليون منهم بالخصوص ـ تعريف كل نوع من الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة، ووضعوا قواعد لكيفية استنباطها وأساليب التفريق بينها، كما قرروا أنه ـ لذلك ـ لايجوز أن يُسوّى بين الواجب والمندوب (لافي القول ولا في الفعل ولافي الاعتقاد) (11)، ولايسوى بين الحرام والمكروه (12)، ولابين المباح وبين المندوب والمكروه (13)، يقول الشاطبي: (الواجبات لاتستقر واجبات إلا إذا لم يُسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام، فلا تُترك ولايُسامح في تركها البتة، كما أن المحرمات لاتستقر كذلك إلا إذا لم يسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام فلاتفعل، ولايسامح في فعلها) (11).

والمصالح الشرعية مقسمة إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، وهي مرتّبة هذا الترتيب، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية كما يقول الشاطبي: (ليست كالأوامر الشرعية المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الضروريات ليست في الطلب على وزان واحد، كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس، ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات، والحاجيات كذلك .. ) (14).

إذاً لايكفي المسلم أن يعلم ما أَمَر به الشرع أو مانهى عنه، بل عليه أن يعلم أيضا درجة الأمر أو النهي، وأن ينزل كل ذلك مرتبته دون إفراط ولاتفريط.

فقه مراتب الأعمال خاصةُ العلماء بهذا الدين:

وقد وصف الإمام ابن تيمية فقه مراتب الأعمال بأنه حقيقة الدين، وحقيقة العمل بما جاءت به الرسل، وبأنه خاصة العلماء بهذا الدين. يقول: (فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً. فأما مراتب المنكر ومراتب الدليل، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكرين: وترجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين) (15).

أما تلميذه ابن القيم فقد اعتبر انشغال الإنسان بالأعمال المفضولة عن الفاضلة من عقبات الشيطان التي لايتجاوزها المسلم إلا بفقه في الأعمال ومراتبها، إن الشيطان في هذه العقبة يأمر الإنسان ويُحَسّن له الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، ويريه مافيها من الفضل والربح؛ ليشغله بها عما هو أفضل وأعظم كسبا وربحاً؛ (لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له)، ثم قال ابن القيم: (فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها، وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا، ورئيساً ومرؤوسا، وذروة وما دونها ... ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه) (16).

غياب حس الأولويات:

لقد كان لعدم الاهتمام بتعليم المسلم هذا الفقه الجليل آثار قد تكون بعيدة المدى وشديدة الضرر دنيا، وأخرى. ومن تلك النتائج:

1 - ضياع الأجر: فالجاهل بمراتب الأعمال يهتم بالعمل قليل الأجر على حساب كثير الأجر، ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسنات قليلة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير