والمروي عن ابن عباس ((كفر دون كفر)) هذا لا يصح عنه رواه الحاكم في المستدرك من طريق هشام بن حُجير عن طاووس عن ابن عباس. وهشام ابن حجير ضعيف ضَّعفه ابن أحمد ويحيى وطوائف، وقد خُولف في الإسناد فرواه عبد الله بن طاووس عن أبيه في غير ما رواه هشام. وعبد الله بن طاووس أوثق من هشام فرواية هشام منكرة لا يحتج بها. على أنه لو صح هذا الأثر قد نزله جماعة من أهل العلم على قضايا خاصة ليست من قضايا التشريع وليست في قضايا الاستبدال، إنما هي في بعض قضايا الترك بدافع الهوى لا في قضايا التشريع لأن التشريع بحد ذاته كفر.
وهذا النوع ينازع فيه كثير من المتأخرين ويقولون: كفر دون كفر ويجعلون هذا القول أي أنه كفر من أقوال الخوارج ويحامون عن الحكام المشرعين ويعذِّرون عنهم بما لا يعذِّرون عن أهل العلم وحماة التوحيد، ولهذا أسباب منها: الأمر الأول: قد يكون الدافع هو الهوى والشياطين.
الأمر الثاني: قد يكون الدافع هو الجهل بحقيقة المسألة وعدم تصورها على الوجه الأكمل.
الأمر الثالث: قد يكون الدافع هو الإرجاء فإن بعض الطوائف المنحرفة عن شرع الله لا تكفر في ترك جنس العمل مطلقاً. وهذا هو مذهب غلاة الجهمية والمرجئة.
الأمر الرابع: قد يكون الدافع هو التأويل. أي أنهم متأولون في هذه القضية هذا الذي بلغ ووصل إليه علمهم واجتهادهم، فحينئذٍ يعذرون بذلك إذا كان عن محض اجتهاد وعن محض تأويل، ولكن ليس لهم حق رمي الآخرين بمذهب الخوارج وهم معتصمون بكتاب الله وبالإجماع المنقول عن أكابر أهل العلم.
[الشريط الرابع]
34 - قوله تعالى: ? الحمد لله رب العالمين ? قيل الرب هنا بمعنى المالك وقيل الرب هنا بمعنى مربي العالمين وقيل بمعنى الخالق وهذه الأمور كلها من توحيد الربوبية وقيل بمعنى المعبود: ? الحمد لله رب العالمين ? أي معبود العالمين وهذا توحيد الإلهية.
35 - قال مالك وغيره من أزال صفة عن الله فقد كفر، أي من جحد صفة من صفات الله وأنكرها فهو كافر، فالجهمية ينكرون، علو الله، على خلقه وهذه الصفة جاءت الأدلة النقلية بتقريرها والأدلة العقلية على الإيمان بها، وهم لا يتوقفون عند إنكار علو الله على خلقه فهم ينكرون استواء الله على العرش ولا يثبتون لله جل وعلا الصفات مطلقا بل يحرفونها فهم قد عطلوا الله جل وعلا عن أسمائه وصفاته.
كما أن هناك طوائف أخرى تمثل صفات الله بصفات المخلوقين، وقد قال نعيم بن حماد الخزاعي وغيره ((من شبه الله بخلقه فقد كفر)) ونظم هذا الإمام ابن القيم رحمه الله في النونية:
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا
إن المشبهِ عابدُ الأوثانِ
كلا ولا نخليه من أوصافه
إن المعطلَ عابدُ البهتانِ
من شبه الرحمن العظيم بخلقه
فهو الشبيه لمشرك نصراني
أو عطل الرحمن عن أوصافه
فهو الكفور وليس ذا الإيمانِ
36 - قال تعالى: ? وإذا غشيهم موجٌ كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ? الله جل وعلا أخبر أنهم إذا غشيهم موج من البحر وإذا غشيتهم الظلمات وإذا ماجت بهم البحار وإذا وقعوا في الملمات والشدائد دعوا الله مخلصين له الدين في هذا دليل أنهم يعلمون أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل ولكنهم يعتقدون إما كَذِبَ الرسل، من أسباب كفرهم أنهم يعتقدون كذب الرسل، وأن الله ما بعث إليهم بشراً يدعوهم إلى الله، وأنا لا نعلم صدقه وأنه يفترى على الله الكذب، أو أنهم يقولون: هذه وسائط مع الله كما قال عنهم: ? ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ? غير أن هذا التوحيد لا يدخلهم في الإسلام ولا ينفعهم ولا يخلصهم من عذاب الله جل وعلا وإن كانوا يعتقدون بأن الله هو المعبود الحق ولكن يعبدون معه غيره.
فإن قال قائل: لو كانوا فعلاً يعلمون أن الله هو المعبود الحق لماذا يعبدون معه غيره؟
فنقول إذاً ما الجواب: أنهم يخلصون لله في زمن الشدة لو لم يكن هذا الاعتقاد مستقر في نفوسهم ما أخلصوا لله في زمن الشدة، لأنهم ما جاءتهم رسل في زمن الشدة بالذات: ثم دعوهم إلى الله فآمنوا ثم تغيروا فيما بعد، لكن هذا كان مستقراً في نفوسهم ومستقراً في قلوبهم، ولكن الذي يمنعهم من إفراد الله بالعبادة هي أمور:
¥