ماله يؤخذ على التقديرين، فإذا لم يحصل كان قد أكل ماله بالباطل" أ هـ.
وبهذا تعلم أن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يرى بأن مفهوم القمار أوسع من المفهوم الذي عليه كثير من أهل العلم، وهو أن القمار: التردد بين الغنم والغرم. فهذا عنده من القمار، وكذلك المخاطرة التجارية التي يتردد فيها حظ أحد المتعاقدين بين الأخذ والفوات، فهي عنده من القمار، وهو ما يعبِّر عنه بعض الفقهاء بالغرر.
بقي أن يقال: وهل في المضاربة بالأسهم مخاطرة مطلقة, بحيث يتردد فيها حظ المشتري بين الأخذ والفوات؟
وأترك الجواب لما نشر في جريدة الرياض في عددها رقم: (13752) الصادر يوم الجمعة (18/ 1/1427هـ) تحت عنوان (سوق الأسهم يفقد 80.2 مليار ريال في دقائق): " ... أدى الانخفاض السريع إلى إحداث حالة ذعر وخوف لدى المتداولين من حدوث نزول تصحيحي شامل جعلهم يتدافعون على البيع ... الأمر الذي جعل القيمة السوقية للسوق تنخفض (80.2) مليار ريال في دقائق ... "
وكثيراً ما نقرأ مثل هذا الخبر في صحفنا المحلية، حتى إن كثيراً من المضاربين قد لا يدركه الوقت لبيع ما لديه من أسهم، بسبب الانهيار المفاجئ والسريع للأسهم، بل امتدت موجة هبوط أسعار الأسهم لتقضي على عدد من المواطنين الذين توفوا نتيجة تعرضهم لأزمات قلبية بعد انهيار رؤوس أموالهم بين عشية وضحاها، وأصبحنا نسمع عن تدافع بعض السعوديين نحو عيادات الأطباء، مصابين بارتفاع في ضغط الدم، وغير ذلك.
وهذا الواقع المؤسف يقودنا إلى نقطة أخرى في الموضوع وهي أنه على القول بأن المضاربة بالأسهم ليست من المخاطرة المحرمة، فما هو مدى حجم المفاسد الناتجة عن المضاربة بالأسهم على الفرد والمجتمع؟ هل هي مفاسد راجحة فيمنع منها لهذه العلة، أو هي مرجوجة مغمورة في مصالحها الراجحة فتباح؟
والجواب على هذا السؤال لابد أن يكون ملامساً للواقع، فلا يصح أن يكون الجواب نظرياً مجرداً عن حقيقة ما يجري في هذا السوق.
والمتأمل للواقع، ـ كما يحكيه رأي الجريدة الاقتصادية الصادرة يوم الأربعاء (1/ 2/1427هـ) ـ يجده أشبه بمشهد مسرحي، حيث دفع سعار تداول الأسهم القاصي والداني للانخراط في مذبحة السوق، إذ باع راعي الغنم أغنامه، وراعي الإبل إبله، وصاحب الورشة ورشته، وصاحب البقالة بقالته (بل وباع صاحب المنزل منزله واستأجر لأهله وأولاده منزلاً أو شقة، وباع مالك السيارة سيارته، واستأجر له سيارة بأجر شهري) بادروا بذلك مدفوعين ببريق سوق منتعشة، تغريه ليل نهار بربح وفير، وحلم يلوح على البعد بالثراء أو اليسر على أقل تقدير. وكثير من هؤلاء من هجر عمله أو حقله أو حانوته، واختطف ما لديه من نقود، واستل حتى ما في جيبه، ثم ألقاه في فوهة فم السوق التي لا تشبع، وتقول: هل من مزيد؟! والنتيجة لهذا الواقع، ما يلي:
1 - قيام المضاربين (البالغ عددهم مليونان تقريباً) بضخ السيولة في فوهة فم السوق، والنأي بها بعيداً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، مما أدى إلى إحداث كساد في البلد لا يخفى على بصير.
2 - أننا أصبحنا نقوم بعكس ما تفعله الأمم والشعوب، فعلى حين تستخدم هي أسواقها المالية من أجل توفير السيولة لتمويل المشاريع، قمنا نحن بضخ السيولة وجرفها بعيداً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، كما صرح بذلك بعض خبراء الاقتصاد.
3 - - أن هذه السيولة الكثيرة التي يضخها السوق، مع ما تعيشه الدولة من وفرة في الإيرادات النفطية ونحوها- بالإضافة إلى ذلك الكساد المشار إليه- ينذر بتضخم في النقد.
4 - تعثر كثير من المضاربين الصغار، وهم الذين يمثلون الغالبية بين (الهوامير) مما أدى إلى انتكاسات خطيرة، كانت سبباً في تراكم الديون عليهم، وربما إلى وصولهم إلى مستوى تحت خط الفقر، وذلك في غمضة عين.
5 - أن أسلوب المضاربة بالأسهم أفرز نقيض ما كان يحققه أسلوب الاستثمار بها، فالأسلوب الأول يقتصر على المضاربة على فروق الأسعار، أما الأسلوب الثاني ـ و هو الأصل ـ فهو الذي يعزِّز إنتاجية الشركة، ويعدو بها إلى مصاف الشركات المتقدمة، وحيث إن الأسلوب الأول يتحقق بدون عناء أو مشقة كان التركيز عليه، حتى أصبح تأثيره سلبياً على أسلوب الاستثمار، بل حتى أصبحت الشركات نفسها تراهن عليه، وتشغل ما لديها من سيولة فيه، بدلاً من استثمار هذه السيولة في مشاريع ترتقي بالشركة إلى الأمام.
لهذا وغيره ـ مما تشهده الأسواق المالية عموماً من تلاعب، وعدم التزام بأحكام الشريعة في تعاملاتها، ـ صرَّح بعض العلماء بتحريم المضاربة بالأسهم، لما تؤدي إليه من أضرار بالغة بالفرد والمجتمع، ومن هؤلاء العلماء الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، كما صرح في بحثه عن الاختيارات المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي، في العدد السابع (1/ 270) حيث صرح فيه بأنه يميل إلى المنع. وهو رأي الشيخ الدكتور صالح الفوزان، وعلل تحريم المضاربة بها بأنها قمار محرم، كما شافه بذلك عدداً من طلابه.
وهذا الموضوع جدير بأن يعاد فيه النظر من قبل المجامع العلمية، وما يكتنف هذه المعاملات من مصالح ومفاسد، ومدى شبه هذه المضاربات بالقمار، حتى يصدر الناس عن رأي موثوق به، يدرس الموضوع من كل جوانبه، ويحدد مواقع الزلل، ويضع الحلول الشرعية المناسبة، والله تعالى أعلم، وأحكم.
http://www.saaid.net/fatwa/sahm/56.htm
¥