والأصل أنه لا يجوز احتراف عمل محرم بذاته، ومن هنا مُنع الاتجار بالخمر واحتراف الكهانة… إلخ. كما لا يجوز احتراف ما يؤدي إلى الحرام أو ما يكون فيه إعانة عليه، كالوشم: لما فيه من تغيير خلق الله، وككتابة الربا: لما فيه من الإعانة على أكل أموال الناس بالباطل ونحو ذلك.
وقد تعرض الفقهاء إلى اتخاذ حرف يتكسب منها المحترف من غير أن يبذل فيها جهدًا، أو يزيد زيادة، كالخياط يتسلم الثوب ليخيطه بدينارين فيعطيه لمن يخيطه بدينار ويأخذ الفرق. فذهب الفقهاء إلى جواز ذلك؛ لأن مثل هذه الإجارة كالبيع، وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقل منه وبأكثر، فكذلك الإجارة، إلا أن الحنفية نصُّوا على أنه إذا كانت الأجرة الثانية من جنس الأجرة الأولى فإن الزيادة لا تطيب له إلا إذا بذل جهدًا أو زاد زيادة، فإنها تطيب ولو اتحد الجنس.
القاعدة الأصولية في احتراف الرياضة
وقد جاء في فتاوى المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء: "يؤكد المجلس قاعدة أن "احتراف المباح مباح" إلا ما استُثنِي بدليله. والرياضة مباحة في نفسها على أقل تقدير إن لم تكن مندوبة أو واجبة. وقد حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمة على بعض أنواع الرياضة التي تحفظ صحة الإنسان وقوة الأمة؛ وهذا ما لم تفض إلى ضرر. فهل احتراف الرياضة -كرة القدم نموذجًا- يحقق شرط عدم الإفضاء إلى الضرر؟
لقد أصبح احتراف لعبة الكرة أمنية معظم الشباب المسلم، فمن خلالها يستطيعون الحصول على الملايين، والشهرة، والنفوذ، وإعجاب الآخرين .. ولكن .. تُرى هل يجوز للمسلم أن يقضي حياته كلها في لعب الكرة؟ هذا السؤال واجهه عدد ليس بالقليل من العلماء، اجتهد بعضهم وأفتى في هذه المسألة، بينما رفض بعضهم الإجابة، موضحين أن حكمًا كهذا يحتاج إلى بحث واجتهاد جماعي.
وفي هذا الإطار يقول د. نصر فريد واصل: يجوز أن يحترف المسلم الرياضة باعتبارها لا تخرج عن أسس وتقاليد السلام، ولا تؤدي إلى إفساد في الحياة الاجتماعية أو تعطيل حقوق تتعلق بالأسرة أو من يجب كفالتهم، ويشترط لاحتراف الكرة عدم المغالاة في الحصول على الأجر.
رأي آخر في الاحتراف
ويرى د. عبد العزيز عزام أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر أنه لا يجوز للمسلم أن يحترف كرة القدم إلا إذا كانت هي وسيلة العمل الوحيدة أمامه، ولكن ينبغي أن تكون أهداف المسلم في الحياة أكبر من لعب الكرة.
ويقول د. أسامة مؤمن أستاذ التفسير بكلية أصول الدين جامعة الأزهر: لا يجوز للمسلم احتراف كرة القدم، حيث إنها ليست ذات نفع عام أو فائدة، وبناءً على ذلك فإن المال الذي يحصل عليه لاعب الكرة به شبهة الحرام.
ويضيف أن الإسلام يعتبر الكرة وسيلة لتقوية جسد المسلم ومساعدته على العمل والجهاد والسعي، ويشير في ذلك إلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ... " (رواه مسلم).
ويرى د. عبد المهدي عبد المقصود أنه يحرم على المسلم احتراف كرة القدم، ويصبح عائدها المالي في هذه الحالة مالا حراما. ويقول د. عبد المقصود: يشترط في عمل المسلم أن يكون نافعًا للأمة. ويؤيد ذلك د. يحيى إسماعيل أستاذ الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر مستدلاً بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" (رواه البخاري).
البروتوكولات الصهيونية بين الشائع والمحقق
ويضيف د. عبد الستار فتح الله سعيد أن ما نشهده الآن من انشغال العالم الإسلامي بمباريات الكرة هو جزء من مخططات صهيون لتدمير العالم وإفساد الأخلاق. ويستدل على ذلك بما جاء في بروتوكولات صهيون التي ذكر فيها اليهود: "إننا سنغرق العالم في جنون المباريات الرياضية؛ حتى لا يصبح للأمم ولا للشعوب اشتغال بالأشياء العظيمة، بل ينزلون إلى مستويات هابطة، ويتعودون على الاهتمام بالأشياء الفارغة، وينسون الأهداف العظيمة في الحياة؛ وبذلك يتمكن اليهود من تدمير الجوييم (غير اليهود) ".
لكن د. عبد الوهاب المسيري أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس، والمفكر المعروف يرى خلاف ذلك، إذ يؤكد أن فكرة بروتوكولات صهيون وتأثير اللوبي الصهيوني ووسائل الإعلام الصهيونية على العالم مجرد أسطورة.
فبروتوكولات الصهاينة -من وجهة نظر الدكتور المسيري- نوع من الدعاية وغسيل المخ، ومحاولة لإيهام العرب والمسلمين بأن قوة الصهيونية قوة أسطورية، تتمتع بتفوق مطلق، وقدرة صارمة على تحقيق الأهداف، وأن قصة تسريبها كانت مختلقة ومحبوكة من أجل إقناع العرب والمسلمين بصدقية هذه البروتوكولات.
إلا أنَّ ذلك لا يقدح في حقيقة أن ظاهرة عولمة كرة القدم، وما يرتبط بها آنيًّا من ظواهر كالاحتراف وغيره، قد تجاوز الحدود التي يمكن أن يعقلها ويحتملها قطاع واسع من المثقفين والمجتهدين المسلمين.
وما قاله الدكتور المسيري ينفي الصبغة التآمرية عن ظاهرة احتراف الكرة، ويضعها في مكانها الطبيعي من حيث كونها مجرد نشاط من أنشطة التربية الاجتماعية والبدنية، وهذا صحيح، إلا أن الظواهر السلبية المرتبطة بها تأتي من رغبة رأسماليي الغرب في الإثراء على حساب مثل هذه الرغبة، وعلى حساب من هم على استعداد للإنفاق من أجل التمتع بها كغاية ترفيهية. وهنا نجد أنفسنا أمام الاستغراق الحاصل لأمتنا في هذه المتعة الترفيهية إلى الحد الذي أنسانا قضايانا الحقيقية.
تابع معنا بقية محاور التحقيق:
الرياضة لم تعد رياضة .. كيف؟
صناعة الكرة واقتصادياتها
القدوة في كرة المحترفين
حكم احتراف كرة القدم
http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1173695383304&pagename=Zone-Arabic-Shariah%2FSRALayout