ثالثاً: الاضطرار إلى تشريح الجثة لمعرفة صاحبها إن لم يكن معروفاً عند الدفن أو قبله، أو للتثبت من وقوع جنايةٍ ما و تحديد الجناة الذين تسببوا في قتل النفس المدفون صاحبها بغير وجه حق، على ما يجري عليه العمل في العصر الحاضر، و في هذه الحال لا بد من الرجوع إلى رأي طبيب مسلمٍ ثقةٍ في عمليه النبش و و التشريح، كما ينبغي الرجوع إلى إذن ولاة المتوفى (المقتول غالباً) قبل انتهاك حرمته، و الله أعلم.
قلت: و هذه الصورة على وجه الخصوص جديرة بالدراسة و البحث للوصول إلى أدق الضوابط الشرعية للتصريح بنبش القبر بقصد تشريح الجثة، كي لا تكون حرمات المسلمين محل عبث العابثين و تساهل المتساهلين، و بالله التوفيق.
النوع الثاني: نبش القبر بقصد نقل ما فيه من جثمان أو رفاة إلى موضعٍ آخر مغاير لمدفنه الأصلي، لمصلحة شرعية تتعلّق بالميت نفسه، أو بغيره من الأحياء، و يتضح هذا القسم في ثلاث صور ذكرها أهل العلم، و هي:
أوّلاً: إذا كان نقل الرفاة من قبرٍ إلى قبرٍ آخر لمصلحة الميت نفسه، كأن يكون في أرضٍ سبخةٍ أو ذات مفاوِزَ و أغوار، أو مجرى لنجاسة و نحوها، أو عرضة لنبش السباع الضارية، أو للتوسعة على الميت في لحده أو قبره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [كما في مجموع الفتاوى 24: /303]: [لا ينبش الميت من قبره إلا لحاجة؛ مثل أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت فينقل إلى غيره كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك].
و لعل شيخ الإسلام رحمه الله يحيل في كلامه هذا إلى ما رواه البخاري في: [باب هل يُخرَج من القبر و اللحد لعلّةٍ، من جامعه الصحيح بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: (لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلاّ مَقْتُولاً فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ وَ إِنِّي لا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَ اسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَ دُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ؛ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ).
قال ابن حجر رحمه الله: قوله: (باب هل يخرج الميت من القبر و اللحد لعلة) أي لسبب، و أشار بذلك إلى الرد على من منع إخراج الميت من قبره مطلقاً، أو لسبب دون سبب، كمن خص الجواز بما لو دفن بغير غسل أو بغير صلاة، فإن في حديث جابر الأوّل دلالة على الجواز إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق به من زيادة البركة له ... وفي حديث جابر الثاني دلالة على جواز الإخراج لأمر يتعلق بالحي لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه، وقد بين ذلك جابر بقوله " فلم تطب نفسي ".اهـ.
قلت: و يدخل تحت ما تقدم نقل الميت المسلم من مقابر الكفار إلى مقابر المسلمين، و العكس.
ثانياً: أن تكون الأرض التي دُفن فيها الميت مغصوبة، فيجب إزالة القبر منها بنقله إلى مكان آخر، و تمكين صاحبها الأصلي منها إلاّ أن يصّدَّق (يتنازل) عن طيب نفس.
ثالثاً: إذا كانت القبور عاديةً (دارسةً) و كان في نقلها مصلحة راجحة لعامّة المسلمين، كتوسعة مسجدٍ أو شق طريق لا بديل عنه، أو بناء سدٍ في وجه سيل عارمٍ أو ريحٍ عاتية، أو نحو ذلك من الضروريات المتحتمات.
و يدل على مشروعية هذا الأمر في حدود ما تُلجِئُ إليه الضرورة ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة بناء مسجد النبي صلى الله عليه و سلَّم في المدينة، و فيه أنه صلى الله عليه و سلّم (أمر ببناء المسجد؛ فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا: و الله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى. فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، و فيه خِرَب، و فيه نخلٌ؛ فأمر النبي e بقبور المشركين فنُبِشَت، ثُم بالخِرَب فسُوِّيَتْ، و بالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، و جعلوا عَضادَتَيْهِ الحجارة ... ) الحديث.
قال الحافظ ابن حجر [كما في الفتح]: (في الحديث جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة و البيع، و جواز نبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة، و جواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها و إخراج ما فيها، و جواز بناء المساجد في أماكنها).
قلتُ: و ممّا ابتلي به المسلمون في بعض البلدان اليوم أن سلطات تنظيم المُدُن و تخطيط الأحياء كثيراً ما تعمد إلى إزالة مقابر دارسةٍ لغير ضرورة تذكر، و ربَّما كانت القبور المراد نبشها غير دارسة أصلاً، فتنقل أو يعطى ذوو المدفونين فيها فسحة قصيرةً من الزمن لنقل رفاة موتاهم، و إلا سُوِّيَت المقبرة، و نقل ما في جوفها من رفاة بطريقة عشوائية، لإقامة حدائق – و ربَّما كنُفٍ و مراحيضَ - عامة، أو محطات حافلات، أو شق طريق في مكانها مع عدم الإضطرار إلى ذلك، و أشنع من هذا و ذاك ما بلغني أنه في بعض البلاد تمت إزالة مقبرة كاملة لإقامة نُصب تذكارية لبعض الحكام أو الرموز الوطنية أو القومية (كما تحلو للبعض تسميتهم)، مع ما في ذلك من اعتداء سافر على حُرُمات الأموات التي أمر الله تعالى بحفظها و صونها و الدفاع عنها.
و هذا الفعل شنيع عقلاً و عرفاً، علاوة على كونه منكرٌ شرعاً، بل هو من الكبائر الموبقة الموجبة لعذاب الله تعالى.
لذلك وجب إنكار هذا العمل بقدر المستطاع، و حرُمت المساهمة فيه بالرأي أو المشورة أو الحِرفة، و حتى السكوت عليه.
بل و يحرم – لغير الضرورة - الانتفاع بالمرافق المبنية على أنقاض مقابر المسلمين التي نبشت جزافاً بدون مبرر شرعي، لأن حكمها حكم الأرض المغتصبة التي لا يقرُّ مغتصبها بوضع يده عليها.
و الله أعلم، و لا حول و لا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
وكتب
د. أحمد بن عبد الكريم نجيب
¥