الثاني: أنه لا يضر الحديث ولا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من الفقهاء , لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
الثالث: أنه قد قال به راويه أنس بن مالك رضي الله عنه وأفتى به يحيى بن يزيد الهنائي راويه عنه كما تقدم , بل ثبت عن بعض الصحابة القصر في أقل من هذه المسافة , فروى ابن أبي شيبة عن محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال: (تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال) , وإسناده صحيح كما في إرواء الغليل.
ثم روى من طريق أخرى عنه أنه قال: (إني لأسافر الساعة من النهار وأقصر). وإسناده صحيح , وصححه الحافظ في الفتح.
ثم روى عنه: (أنه كان يقيم بمكة , فإذا خرج إلى منى قصر) , وإسناده صحيح أيضاً.
ويؤيده أن أهل مكة لما خرجوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى منى في حجة الوداع , قصروا أيضاً , كما هو معروف مشهور في كتب الحديث والسيرة , وبين مكة ومنى فرسخ , كما في (معجم البلدان).
قال جبلة بن سحيم: سمعت ابن عمر يقول: (لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة) , ذكره الحافظ وصححه.
ولا ينافي هذا ما في الموطأ وغيره بأسانيد صحيحة عن ابن عمر أنه كان يقصر في مسافة أكثر مما تقدم , لأن ذلك فعل منه , لاينفي القصر في أقل منها لو سافر إليها , فهذه النصوص التي ذكرناها صريحة في جواز القصر في أقل منها , فلا يجوز ردها , مع دلالة الحديث على الأقل منها.
وقد قال الحافظ في الفتح: (وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه , وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر , ولا يخفى بعد هذا الحمل , مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد قال " سألت أنسا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة - يعني من البصرة - أصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع , فقال أنس فذكر الحديث , فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه. ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها , ورده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به فأن كان المردود به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلملكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ , فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها فيؤخذ بالأكثر احتياطا , وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن ابن حرملة قال " قلت لسعيد بن المسيب: أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم " والله أعلم).
قلت: وإسناد هذا الأثر عند ابن أبي شيبة صحيح.
وروى عن اللجلاج قال: (كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال , فنتجوز في الصلاة ونفطر) , وإسناده محتمل للتحسين , رجاله كلهم ثقات , غير أبي الورد بن ثمامة , روى عنه ثلاثة وقال ابن سعد: (كان معروفاً قليل الحديث).
وقد دلت هذه الآثار على جواز القصر في أقل من المسافة التي دل عليها الحديث , وذلك من فقه الصحابة رضي الله عنهم , فإن السفر مطلق في كتاب الله والسنة , لم يقيد بمسافة محدودة , كقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) النساء 101 , وحينئذ , فلا تعارض بين الحديث وهذه الآثار , لأنه لم ينف جواز القصر في أقل من المسافة المذكورة فيه , ولذلك قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد: (ولم يحدَّ صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مُطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يُروى عنه من التحديد باليوم، أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، واللّه أعلم).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع , فالمرجع فيه إلى العرف , فما كان سفراً في عرف الناس , فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم).
وقد اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة اختلافاً كثيراً جداً , على نحو عشرين قولاً , وما ذكرناه عن ابن تيمية وابن القيم أقربها إلى الصواب , وأليق بيسر الإسلام فإن تكليف الناس بالقصر في سفر محدود بيوم أو بثلاثة أيام وغيرها من التحديدات , يستلزم تكليفهم بمعرفة مسافات الطرق التي قد يطرقونها , وهذ مما لا يستطيعه أكثر الناس , لا سيما إذا كانت مما لم تطرق من قبل.
وفي الحديث فائدة أخرى , وهي أن القصر مبدؤه من بعد الخروج من البلدة , وهو مذهب الجمهور من العلماء كما في نيل الأوطار قال: (وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله ومنهم من قال إذا ركب قصر إن شاء. ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت واختلفوا فيما قبل ذلك فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر) , قال: (ولا أعلم أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة).
قلت: والأحاديث في هذا المعنى كثيرة , وقد خرجت طائفة منها في الإرواء من حديث أنس وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم.
¥