بين عصر العولمة وعصر التسليع فوارق يسيرة، ففي زمن العولمة تستطيع باتصال واحد أن تتناول البيتزا الإيطالية في منزلك قبل أن تهم بغسل يديك، وفي زمن التسليع تستطيع الحصول على شهادة الدكتوراه
بطريقة مشابهة قبل أن تحدد التخصص الدقيق، فضلاً عن أن تستوعب مضمونه.
في عصر العولمة اختصار للوقت والمسافة، فقبل هذا العصر كان صاحب الوليمة مثلاً يضطر إلى الاستعداد المسبق لها بأيام، وكان عليه أن يذهب للأسواق بمختلف أنواعها؛ ليوفر مستلزمات وليمته، والآن أصبح بإمكانه أن يوفر على نفسه كل ذلك باتصال هاتفي مختصر، وهو في منتهى الاسترخاء يمتع ناظريه بمتابعة قناته المفضلة، وبعد دقائق يجد ما لذ وطالب من الطعام والشراب وافراً متنوعاً على مائدته.
أما عصر التسليع فيختزل العقل والجهد، وينزع من النفوس الإرادة، ومن ثم يسهم في تأزيمها، ليزيدها تعلقاً بالمظاهر والقشور، ففي هذا العصر كل شيء متاح بثمن، ولذا لم يعد مستغرباً أن يبذل أحدهم الأموال الطائلة ليتباهى بين أقرانه برقم هاتف مميز، أو أن يثقل كاهله بالديون ليزين مؤخرة مركبته بلوحة معدنية متناسقة الأرقام والحروف.
ومما لا شك فيه أن هذين الاثنين (صاحب الرقم المميز وصاحب اللوحة المميزة) بذلا الأموال ليلفتا أنظار الناس إليهما، بمعنى أنهما يريدان أن يقولا للآخرين: نحن مهمان، ومن الشخصيات المرموقة، ولسنا من دهماء الناس وعامتهم، فاحترمونا رجاء، وإلا ..
إذن هما يفقدان شيئا، وبدلاً من أن يبذلا الجهد في تحصيله بذلا المال، وتبدو مشكلة هذين الاثنين يسيرة نوعاً ما؛ إذ إن أكثر عيناتهما من فئات المراهقين الذين ما يلبث معظمهم أن يعود إلى رشده حين يبرز ضرس العقل في أقاصي فكيه.
ولكن ما الذي يريده رواد جامعات الشقق المفروشة التي تبيع الشهادات؟ ومن أي الفئات هم؟ وما أزمتهم؟ وما الحل معهم ومع مانحيهم المحتالين؟
إن متوسط ما يدفعه رواد الشقق لنيل الماجستير والدكتوراه يقارب الستين ألف ريال، وهو مبلغ معظم باذليه من الكادحين الذين يُمضون آخر الشهر في تقشف وزهد، ويبدو من عينات الحاصلين على تلك الشهادات أنهم من عاشقي البروز والظهور، فتجدهم يُصَدِّرون أسماءهم بألقابهم الزائفة في مناسبة ودون مناسبة، حتى إن بعضهم قد يهجر أقاربه وأصحابه إن لم يبجلوا سعادته، ويصدِّروه في مجالسهم، وينادوه بلقبه الزائف بين الحين والآخر.
وتجد من شغف أولئك بحرف الدال ما يضحك الثواكل والأرامل؛ فهم لا يَخرجون إلا وفي جيوبهم الجانبية والعلوية عشرات (الكروت) الشخصية التي يوزعونها بسخاء غير معهود على من يعي ومن لا يعي، وثمة من يوزعها على عماته وخالاته كأنهن يجهلن من هو، كما يوزعها بحجة التعارف على حضرة البقال، وجناب الفوال، ولا يتحرج بعضهم الآخر من إبرازها لرجل الأمن قبل إثباته الشخصي.
ويزداد إيمانك بتأزمهم حين يستضيفك أحد أولئك في منزله العامر بالإطارات والبراويز، لتجد في مدخل المنزل مجسَّماً زجاجياً مملوءاً بأنواع الدروع والكؤوس التي يباع بعضها في محلات (كل شيء بريالين) وأشباهها، كما سترى على جدران مجلسه أصناف الشهادات الملونة؛ ابتداءً بشهادتي الماجستير والدكتوراه الزائفتين، ومروراً بشهادات التهاني الأسرية بعدد أبنائه وبناته، وشهادات أخرى متنوعة تشهد له بحضور دورات عجيبة في إطلاق العملاق، وتفجير الطاقات، وتحقيق المستحيل، وإجادة كل لغات العالم، وإتقان جميع مهارات الحاسوب، وقد تجد من بينها شهادة شكر من إمام مسجد الحي يشكره فيها على شراء سخان لدورة المياه، وبجوارها شهادة ضمان السخان لمدة ثلاث سنوات، ولو دققت النظر في مجموع شهاداته لرأيت شهادتي الميلاد والتطعيم مدسوستين بينها، مع أنك إن قارنتهما بعين الفاحص الخبير بغيرهما لتيقنت أنهما أصدق شهاداته، على الأقل عليهما أختام حكومية رسمية معترف بها، وإن كنت في الوقت نفسه ستعتب على وزارة الصحة؛ لكونها لم تضف إلى شهادة تطعيمه لقاحاً ضد شلل العقول بجوار لقاح شلل الأطفال.
¥