وهنا ننبه إلى مسألة نفيسة وهي أنه ليس فرضاً على كل مسلم بعينه أن يصير كالشافعي أو غيره من فحول العلم، إنما أقل ما يلزمه أن يحصل القدر الضروري الذي هو فرضٌ، وأهم العلوم تحصيلاً هو علم التوحيد بدليل قول الله عز وجل: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (سورة محمد / ءاية 19). فقوله عز وجل: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} فيه الإشارة إلى علم التوحيد وقوله عز وجل: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} فيه الإشارة إلى معرفة الأحكام من أمور الطهارة والصلاة والصيام وغيره من مسائل العبادات
طلب العلم بين السلف والخلف - طارق محمد العمودي
من المسلّمات المعروفة: أنّ علماءنا الجهابذة (رحمة الله عليهم) لم يطلبوا العلم براحة النفس والجسد، ولم تكن مجالسهم شكلية تضيع في القيل والقال، بل ذاقوا أنواع المعاناة والمشقة والصبر، الأمر الذي تعجز الأسطر عن وصفه، وضربوا في ذلك أروع الأمثلة مما لا تجده في علماء أمة من الأمم السابقة؛ حيث كانت مجالسهم ذات هيبة لما يتلى ويذكر فيها من الآيات والأحاديث، تتنزل عليها الرحمات وتحفها الملائكة.
ولذلك: هجروا في سبيل طلب العلم النوم، والراحة، والدعة، وسائر اللذات،
قال صالح بن أحمد بن حنبل: رأى رجل مع أبي محبرةً، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟ ـ يعني: ومعك المحبرة تحملها؟! ـ فقال: (مع المحبرة إلى المقبرة) مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص 31.
وقال محمد بن إسماعيل الصائغ:» كنت في إحدى سفراتي ببغداد، فمر بنا أحمد بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟ قال: إلى الموت)) مناقب الإمام أحمد، ص 32
وقال الحافظ ابن كثير عن أمير المؤمنين في الحديث (الإمام البخاري): (وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى، حتى كان يتعدد منه ذلك قريباً من عشرين مرة) البداية والنهاية، 11/ 25. 2) تذكرة الحفاظ، 4/ 1219.
وهذا الحافظ محمد بن فتوح الحميدي الأندلسي: كان ينسخ بالليل في الحر، فكان يجلس في إجّانة ماء ـ وهي إناء يغسل فيه الثياب ـ يتبرد به مقدمة المجموع للنووي، 1/ 64، طبعة المطيعي.
وكانت هممهم العالية في طلب العلم تعينهم على الصبر على الفقر وشظف العيش ومرارته، قال الإمام الشافعي (رحمه الله): (لا يطلب أحد العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه ببذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح) ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض، 1/ 130.
وهذا ابن القاسم يقول عن شيخه إمام دار الهجرة مالك بن أنس: (أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه) تاريخ بغداد، للخطيب، 2/ 13.
وذكر عمرُ بن حفص الإمامَ البخاري، فقال: إنهم فقدوا البخاري أياماً من كتابة الحديث بالبصرة، قال: فطلبناه، فوجدناه في بيته وهو عريان، وقد نفد ما عنده، ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث) طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، 3/ 90.
وهذا إمام الشافعية في زمانه أبو إسحاق الشيرازي صاحب (المهذب) في الفقه الشافعي، الذي أشبعه العلماء شرحاً وتحقيقاً وتخريجاً، كان لا يملك شيئاً من الدنيا، فبلغ به الفقر مبلغه، حتى كان لا يجد قوتاً ولا ملبساً، ولقد كان يأتيه طلبة العلم في سكنه، فيقوم لهم نصف قومة، ليس يعتدل قائماً من العري، كي لا يظهر منه شيء!!) من مقدمة (صيد الخاطر)، ص 27
وهذا الإمام الواعظ ابن الجوزي يقول عن نفسه: (ولم أقنع بفن واحد، بل كنت أسمع الفقه والحديث، وأَتْبَعُ الزهاد، ثم قرأت اللغة، ولم أترك أحداً ممن يروي ويعظ، ولا غريباً يَقْدُم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل، ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث، فينقطع نَفَسي من العدو لئلا أُسبق، وكنت أصبح وليس لي مأكل، وأُمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح).
والصور المشرقة من هذا النوع في حياة علمائنا كثيرة.
يتبع في الحلقة القادمة بمشيئة الله.
استفدت كثيراً من مذكرة الشيخ أبو بصير – حفظه الله – مذكرة في طلب العلم.
وكذلك الشيخ محمد حسين يعقوب– حفظه الله –: منطلقات طالب العلم.
... واستفدت أكثر ما استفدت جميع كتابات الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله بخصوص طلب العلم والمنهجية في طلبه