تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[جنايات على العلم والمنهج (5) .. ترك تهيئة الرأي الفطير ...]

ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[19 - 05 - 08, 10:56 م]ـ

بسم الله والحمد الصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فهذا الباب من أنفع الأبواب، ولزومه والانقطاع لرعايته هو أنفع شئ للناظر في نظره، وللمتكلم بلسانه، وللكاتب ببنانه، وهجره والازورار عنه وترك مراعاته هو أخطر شئ وأفسده على العلم وأهله، بل وعلى كل أحد.

والرأيُ الفطير، وبادي الرأي، والحكم اعتماداً على الوهلة الأولى، والنظرة العجلى،واللمحة السريعة، ورائد النظر=كل أولئك مذموم بغيض ..

والعرب تقول في أمثالها: ((الخطأ زاد العجول)).

فإنّ لابتداء الكلام فتنةً تروق، وجِدّةً تعجب، فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمل، وصَفَت النَفس=بان غير ما لاح، واتضح غير ما بدا ..

والخطأ إلى النظرة الأولى والرأي الفطير أسرع منه إلى رأي قيل بعد التروي والتثبت والأناة والتريث ..

والباحث والناظر متى أراد لبحثه ونظره تماماً مجللاً بالصحة وإصابة الحق=وجب عليه إذا هجمتْ عليهِ الأخبارُ، وأشكلتِ المسائلُ، ألا يأخُذُ بالبوادِر، وألا يتعجَّل الحُكم، وإنما يُمحِّصُ ما يسمعُ، ويقلِّبُ النظر، ويُحادثُ الفكر، وأن يُرَوّى فيما بين يديه من الأمور وأن يحتَفل لها ويجمع لها خواطره وأن يجتهد في ترك الرأي يَغِب حتى يَخْتمر فلا يزال في نَسج الرأي واستئناسه حتى إذا اطمأن شاردُه وسَكن نافرُه، وقُلِّبَ على جميع وجوهه وجوانبه=طُرح على العامة وهو أقرب ما يكون إلى الصواب والسداد.

ومن رسائل الجاحظ لبعض إخوانه: ((وفقك الله للطاعة، وعصمك من الشبهة، وأفلجك بالحجة، وختم لك بالسعادة.

غبرت - أصلحك الله - أزمان وأنت عندي ممن لا يمضي القول إلا بعد التثبت، ولا يخرج الكتاب إلا بعد التصفح، وكنت حرياً بتهيئة الرأي الفطير، جديراً أن تميل بنفسك عاقبة التفريط. ولولا كثرة مرور أيام المطالبة عليك لما ثقل عليك التثبت، ولولا قصر أيام التحصيل لما وثقت بأول خاطر، ولولا سوء العادة لما كذبك رائد النظر واتهمت الرأي)).

وقال بعض الكتاب: ((ليس الكتاب كل وقت على غير نسخة، ويحرر بصواب، وكل أوان، لأنه ليس أحد أولى بالأناة والروية وتوقي الاغترار، من كاتب يعرض عقله وينشر بلاغته، فينبغي له أن يعمل النسخ ويخمرها، ويقبل عفو القريحة ولا يستكرهها، ويعمل على أن جميع الناس له أعداء علماء بكتابه متفرغون له، منتقدون عليه)).

وقال آخر: ((إن الابتداء بنظم الكلام ونثره فتنة تروق، وحدة تعجب. فإذا سكتت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس، فليعد النظر، وليكن فرحه بإحسانه مساوياً لغمه بإساءتهن فقد قال الخوارج لعبد الله بن وهب الراسبي: نبايعك الساعة فقد رأينا ذاك. فقال: ((دعوا الرأي يبلغ أناه، ولا خير في الرأي الفطير)).

فلما بايعوه، قال: ((دعوا الرأي يغبُّ فإن غبوبه يكشف لكم عن محضه)).

وقال معاوية لعبد الله بن جعفر: ما عندك في كذا؟ فقال: أريد أن أصقل عقلي بنومة القائلة، ثم أروح فأقول بعد تأملي بما عندي.

وقال الشاعر: إن الحديث يقف القوم خلوته ... حتى يعبره بالسبق مضمار

فعند ذلك تستعلي بلاغته ... أو يستمر به عي وإكثار

وما أعلم أجل في فضل ما نحن بصدد بيان فضله من قول رسول الله صلى الله علي وسلم لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ».

قال ابن حبان: ((الرافق لا يكاد يسبق كما أن العجل لا يكاد يلحق وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم والعجل يقول قبل أن يعلم ويجيب قبل أن يفهم ويحمد قبل أن يجرب ويذم بعد ما يحمد يعزم قبل أن يفكر ويمضي قبل أن يعزم والعجل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة وكانت العرب تكنى العجله أم الندامات)).

وقال ابن المقفع: ((كلامَ العجلةِ والبدارِ موكلٌ بهِ الزللُ وسوءُ التقدير، وإن ظن صاحبهُ أنهُ قد أتقن وأحكمَ.

واعلم أن هذه الأمورَ لاتدركُ ولا تملكُ إلا برحبِ الذرعِ عند ما قيل وما لم يقل، وقلةِ الإعظامِ لما ظهرَ من المروءةِ وما لم يظهر، وسخاوةِ النفسِ عن كثيرٍ من الصوابِ مخافةَ الخلافِ والعجلةِ والحسدِ والمراءِ)).

وما أعلم طريقاً يُستعان بها –بعد الاستعانة بالله وسؤال التوفيق منه سبحانه-على بلوغ منتهى الأمل في الأناة والتروي وتخمير الرأي من الطريق التي أبانها اللهُ تعالى فقال: {وشاورهم في الأمر}.

فمذاكرة الإخوان،,طرح الآراء للبحث والنظر وتقليب الأمور ظهراً لبطن=هو أنفع ما يكون للعبد .. ولربما يُقبل المرء ونفسه تميل إلى رأي فيزول عن مطارحة إخوانه بوجه غير الذي ذهب به وبرأي هو أتم وأحسن وأسد وأجمل ..

وكان الأحنف بن قيس يقول: ((اضربوا الرأي ببعضه يتولد منه الصواب)).

وبعد ..

فهذا ما أرضاه لكل متكلم وناظر وباحث =أن لا يخلي بحثه ونظره من تهيئة الرأي اللفطير، وأن يُغب الرأي (يُبيته) حتى يختمر،وحبذا لو عددنا أكثر ما يُكتب في المنتديات من هذه البابة، وأنا أجد النفع الأكبر للمنتديات =أن يتخذها الباحث مجالاً لتهيئة الرأي الفطير وإصلاحه وتقويم اعوجاجه،ولا بأس عليه إن مال إلى رأي ثم رجع عنه، ولا بأس عليه إن توقف، ولا بأس عليه إن بقي بعد المذاكرة والمناقشة على رأيه الأول،وما كل ذلك بعيب .. إنما العيب فيما ذكرنا ووصفنا ..

وبعد ..

فهذا كلام أعظ به نفسي قبل غيري، نفعنا الله وإياكم بما نكتب، ووقانا الله وإياكم قولاً عاطلاً عن العمل ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير