تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كنا في العام قبل الفائت في أوربا بتكليف من الجامعة، وأثناء وجودنا في فرنسا قائدة أوربا الوسطى والغربية في (التكنولوجيا) "العلم الحديث"، وفي مقدمة الدول التي قيل عنها أنها أوجدت المطر الصناعي، فلم نجد في طول وعرض المناطق التي تنقلنا فيها إلا قصة جفاف الريف الفرنسي؛ لعدم نزول الأمطار سنتئذ، فقلت: وأين نهر السين وروافده؟ فقال لي مرافقي المتطوع بسيارته من الجالية الإسلامية في باريس: الآن تراه، فلما وصلنا إليه وجدته وقد كاد يغور ماؤه، وهو آسن تفوح منه رائحة كريهة من طول ما ركد؛ فقلت: الله أكبر! وأين مطرهم الصناعي؟ لماذا لم ينزلوه ليملأوا منه نهرهم وينبتوا به زرعهم؟ فقال محدثي: وأعجب من هذا أن الحكومة الفرنسية طلبت منا نحن المسلمين هنا، أن نصلي لهم صلاة الاستسقاء، وصليناها فعلا، ولما لم ينزل المطر نشط الحزب الشيوعي الفرنسي بالدعاية الإلحادية ضدنا، ووجدوا من يصغي إليهم في شعب كافر، ولما اشتد بنا الأمر وأحسسنا بالضعف أمامهم؛ إذ بنا نفاجأ في صباح يوم بالأمطار الغزار تهطل في طول فرنسا وعرضها، وأيقنا بأنه نصر لنا من الله انتهزناه وقمنا بالدعاية للإسلام بإضعاف ما قاموا به ضدنا؛ دخل كثبر بسبب ذلك في الإسلام، بل وتحولت بعض الكنائس إلى مساجد، وأنا حضرت بعضها واشتركت في افتتاحها في قلب باريس عاصمة الفسق العالمي، وعبد في تلك المساجد الرحمن، بعد أن كانت كنائس يعبد فيها الشيطان؛ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

تلك قصة المطر الإلهي مع المطر الصناعي، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}، وما أظن من اللائق ونحن في بلد عزيز لدى الله ولدى رسوله والمؤمنين؛ في طيبة الطيبة ولا نتحدث عن أمر الغيث فيها ماضية وحاضرا، لقد ألف عن المدينة كتب شتى، وكلها تنبئ بأن المدينة كانت الواحة الخضراء في عرض الصحراء لكثرة مائها المنهمر والمتفجر فالآبار طافية، والجداول جارية، وجنة الصحراء تتيه بنخيلها وحدائقها النضراء وبواديها العقيق، الذي أهاج يوما جماله شعور الشاعر وأدب الأديب؛ فيا لهفى عليها اليوم، لقد تحولت ينابيعها العذبة الفراتية إلى ماء ملح، وغاب مدد السماء، فغاب اللون الأخضر عن أديمها، وندعو مالك الماء صباح مساء، وعلى منابر الجمع وفي صلاة الاستسقاء، ولكن الودق لم ينزل وماء الينابيع لم يعذب؛ ذلك لأن المدينة العزيزة انتهكت حرمتها، من المقيمين بها والوافدين إليها، قلت لصاحب البيت الذي أسكن فيه: سمعت بأن لك هنا بساتين كثيرة؛ فما أنواع الفواكه بها؟ فأجاب بأن الآبار غلبت عليها الملوحة فقتلت معظمها، ولم يصمد أمام الملح إلا بعض النخيل والبرسيم.

ولنسمع شيئا من حرمة البلد الطيب عند الله وعند رسوله، ففي حديث طويل بدأه صلى الله عليه وسلم بقوله: "لمدينة حرام…" إلى أن قال: "فمن أحدث فيها حدثا، سرا أو علنا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا"، وكم من أحداث تقع في المدينة وليست حدثا، سرا وعلنا، وقوله صلوات الله عليه: "من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة"، ولكن الذي يسمع الآن، هو أن المدينة حارة جدا والمدينة باردة جدا والمدينة غالية جدا إلى غير ذلك، وبقية خيراتها الدينية والدنيوية يندر أن تذكر، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم "اللهم اجعل للمدينة ضعفي ما جعلت لمكة من البركة"، ودعاؤه: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"، هذه الأحاديث مروية في الصحيحين، وفي الموطأ قوله: "ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها" - أي: من المدينة - قائلا ثلاثا، وفي الموطأ أيضا: "المدينة مهاجري، وبها قبري، ومنبها مبعثي، وأهلها جيراني، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال"، وهي ما يسيل من أهل النار، وغير ذلك كثير، فهل كنا ننتظر أن ينزل عليها المطر ونحن على الأقل لم نحفظ حق الجوار مع خير جار صلى الله عليه وسلم؟! إنه إن ينزل سبحانه الماء يوما، فما أظنه من أجلنا، وإنما ليسقي وينبت من أجل الحيوان الذي لم يأثم، ونحن بعد ذلك تبع، كما ورد ضمن حديث صحيح: "ولولا البهائم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير