لأنّ الاتفاقيّة التي تمت بين نابليون الثالث والسلطان العثماني تقضي بإقامة الأمير في مدينة (بروسة)! إذن الأمير سيسافر من فرنسا إلى الحاضرة العثمانية ليستقر في بروسة، وكان السلطان قد خصص للأمير داراً كبيرة هناك (على جهة التمليك) مع مخصصات مالية، إلاّ أنّ السلطان رأى أنّه من الأفضل أن ينتقل الأمير عبد القادر إلى الشام كي يساعده في تحسين الأوضاع هناك!، فتشاور السلطان مع نابليون، وتعلل بأن الأمير لم يطب له المقام في بروسة بسبب كثرة الزلازل، فوافق نابليون على انتقال الأمير إلى دمشق.
وقد نظم الأمير قصيدة جميلة يبيّن فيها حزنه على مفارقة مدينة بروسة التي عاش فيها ثلاث سنوات وله فيها أطيب الذكريات فقال:
أبى القلبُ أن ينسى المعاهد من بُرْسا * * وحبّي لها؛ بين الجوانح، قد أرسى
أكلّفه سلوانها، وهو مغرمٌ * * فهيهات! أن يسلو وهيهات! أن ينسى
تباعدتُ عنها؛ ويحَ قلبي! بعدها ** وخلّفتها، والقلبُ،خلفي، بها أمسى
بلادٌ لها فضلٌ على كل بلدة ** سوى، مَن يشدّ الزائرون، لها الحِلسا
عليَّ محالٌ بلدةً غيرها، أرى * * بها الدين، والدنيا، طهورًا ولا نجسا
وجامعها المشهور؛ لم يك مثله * * به العلم مغروسٌ. به كم ترى درسا
سقى الله غيثًا، رحمةً وكرامةً * * أراضٍ، بها حلَّ الأحبّة، من بُرْسا
[نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر ص33]
وقد منح السلطانُ الأميرَ ألف كيس ذهبي عوضاً عن داره التي تركها في بروسة.
أمّا الراتب السنوي الذي خصصه نابليون للأمير فهو تعويض عن الإساءة التي تعرّض لها الأمير بخيانة الحكومة الفرنسية لعهودها معه، وتعويض عن أملاك أسرته التي صادرتها الحكومة الفرنسية في الجزائر، ومنعتهم من حق العودة إلى الجزائر، والأمير كان مضطراً إلى الإنفاق على أسرته كلها وعلى الجالية التي كانت معه، وكان هذا الراتب قد اتفق عليه السلطان العثماني مع نابليون ورضي نابليون بدفع هذه الأموال في مقابل أن يتكفّل السلطان ببقاء الأمير في المشرق وعدم عودته إلى الجزائر. والأموال التي تفرضها الدول الغربية تعويضاً عن إساءة صدرت منها تجاه أي شخص أمرٌ معروف.
ثمّ إنّ السلطان العثماني عندما عرض على الأمير عبد القادر أن يخصص له من بيت مال المسلمين مرتبًا شهريًا يفي بحاجته وحاجات من معه، رأى الأمير باجتهاده أنه من الأفضل أن يقبل المرتب الذي خصصته الحكومة الفرنسية ليوفّر مالَ خزينة المسلمين. وهذا أحد الأسباب التي دفعت الأمير للقبول بالتعويض المالي من فرنسة.
يقول محمد باشا:"ولأول وصول الأمير إلى بروسة عرضَ عليه واليها بإذن السلطنة العظمى تعيين مرتب شهري يقوم بشؤونه، فسُرَّ الأمير بذلك ودعا للدولة العليّة وشكرها على اهتمامها بأمره الشكرَ الجزيل، ثم قال له إن الإمبراطور نابليون عيّن لي من النقود ما يكفي من النّفقة، وأمّا مولانا السلطان المعظّم فقد تفضّل علينا بما هو أعظم من الدنيا بما فيها وهو تنازل عظمته وإنعامه عليَّ بالكفالة عند الدولة الفرنساوية وهذه الكفالة هي السبب الأقوى في حياتنا الجديدة ولولاها ما خرجنا من قبضة الأسر، وهذا الإنعام لا يوازيه شيءٌ ولا يقابله شكرٌ".انتهى [تحفة الزائر 2/ 54]
فلو كان الأمير يحب المال وجمع الثروة كما يتهمه البعض لما وقف هذا الموقف الذي لم نسمع بمثله إلاّ في النادر من الرجال على مرّ العصور.
على كل حال الحديث عن الحالة المادية للأمير سيأتي في حلقة قادمة إن شاء الله.
والحمد لله ربِّ العالمين
خلدون بن مكِّي الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله
ـ[أبو البراء الكناني]ــــــــ[09 - 07 - 08, 04:04 م]ـ
الحمد لله رب العالمين ...
أخي الكريم خزانة الأدب وفقه الله وسدد خطاه.
قد أوافقك أخي الكريم على بعض الجزئيات التي تذكرها، كما قد أخالفك في بعضها كذلك، وحيث إن مشاركتك الأخيرة تمثل نوعاً ما تلخيصاً لاعتراضاتك فإنني أتمنى أن تنظر فيما يلي:
= لا شك أننا جميعاً -أخي الكريم- نتفق على أن الأصل فيمن ظاهره الإسلام هو البراءة من كل ما يخالف عقيدة الإسلام من قول أو فعل أو اعتقاد ولا يُنتقَل في الحكم عليه عن هذا الأصل الثابت بيقين إلا بيقين، فالآن:
¥