إذا ثبت أن الأصل في الأمير أنه مسلم ولم يثبت عند الدكتور خلدون حفظه الله دليل يقيني على إتيانه بما يخالف ذلك فإنه عندما يأتي بكلام تشرشل أو غيره لا يأتي به مستدلاً بل مستأنساً لأنه يستصحب البراءة الأصلية، فليس بحاجة للكلام عن السند أو العدالة أو الترجمة وغير ذلك، وهذا الصنيع أخي الكريم من باب تكثير الحجج وليس بغريب؛ فمن أهل العلم من يقول في معرض نفي التهمة عن يوسف عليه السلام إن ممن شهد له بالبراءة كذلك إبليس حيث قال: {إلا عبادك منهم المخلصين}، ولم أسمع أن أحداً من العلماء اعترض على ذلك رغم أن هذا عند المخالف الذي يرميه عليه السلام لا يصلح أن يكون دليلاً، وأنت لو تأملت صنيع أهل العلم حيث يقول الواحد منهم: والرد على ذلك من أربعين وجهاً -مثلاً- ستجد أحياناً بعض هذه الوجوه لا تنهض كأدلة مستقلة، ولكنه كما قلت من باب تكثير الحجج وتقوية القول.
أما عندما يجد الدكتور في الشبه التي يرد عليها ما ينقل عن البراءة الأصلية فلا بد أن يكون هذا الناقل عن البراءة دليلاً صحيحاً فكلامه وفقه الله عن السند والمتن وصحة نسبة الكتب وصحة الترجمة وغير ذلك متوجه هنا ولا يناقض تصرفه حيال كلام تشرشل وغيره، للفرق بين الأمرين.
= على الطرف الآخر فإن من يرمي الأمير بالحلول والاتحاد وغير ذلك مما يخرج من الإسلام عليه أن يأتي بدليل يقيني، ولا يخفى أن من احتمل كلامه الكفر من تسعة وتسعين باباً واحتمل الإيمان من باب فإنه لا يحكم عليه بكفر، ومعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات، فإذا كان في كتاب المواقف أو غيره ما قد يفهم منه القول بالحلول وفيه أو في غيره التصريح بما ينفي ذلك فإن الدكتور يطلب ممن صحت عنده نسبة الكتاب ألا يأخذ منه شيئاً ويدع غيره وألا يأخذ بالمفهوم والمظنون ويدع ما صرح به الأمير، هذا على فرض أن ما يدل على الحلول إنما هو مفهوم قول الأمير فحسب.
وأنا في هذه النقطة أؤيد الأستاذ الفاضل محمد المبارك في أن نسبة الكتاب ينبغي أن تحرر ليعلم هل يصح الاستدلال به للأمير أو عليه أم لا، كما أنني أوافقك وأخالف الدكتور في قوله إنه يمكن الاحتجاج على من يصحح نسبة المواقف بما فيه مما ينفي الحلول بينما ما فيه مما يثبته إن وجد -وأرجو التنبه لهذا الشرط كي لا يظن التناقض مع ما سبق- لا يمكن الاحتجاج به على الدكتور لأنه لا يصحح نسبته، لأن أقل ما يقال: إن هذا الكلام لا يرد الشبهة التي يريد الدكتور وفقه الله ردها عند من يصحح نسبة الكتاب، وهذا مخالف لمراد الدكتور من موضوعه.
= أما قولك أخي الكريم أن الكلام ينبغي أن يكون في نقطتين وأن ما عداهما ابتعاد عن صلب الموضوع وتفريع وغير ذلك، فهذا الموضوع أخي الكريم موضوع الدكتور ولا شك أن له وجهة نظره فيما يعرضه، وإذا رأى أن هناك عشر شبهات -مثلاً- يريد الرد عليها فليس لي أو لك أن نعترض أو نفرض عليه مناقشة شبهات بعينها من هذه العشر، ولكن إن لم نكن نهتم ببعض ما يورده فليس لنا سوى الانتظار ريثما يعرض ما نراه مهماً.
= إذا وافقتني على النقطة السابقة فإن ما تناوله الدكتور من مسألة حرق الكتب مسألة رئيسة وليست فرعية عنده، وربما أنها كذلك عند كثيرين -أنا واحد منهم- بل رغم أنها ليست رئيسة عندك إلا أنها أخذت كثيراً من كلامك ونقاشك لكلام الدكتور حتى أن اهتمامك بها استمر إلى مشاركتك الأخيرة.
فأنا الآن أخي الكريم أسألك: هل صح عندك أن الأمير قام بجمع وإحراق كتب الرد على ابن عربي؟
إن قلت نعم، فما هو دليلك؟
إن قلتَ: ما ذكره الشيخ محمد نصيف رحمه الله لا غير، أقول لك فلننظر في هذا الدليل:
الشيخ رحمه الله ثقة -لا ريب في ذلك- وهو يروي عن سائح تركي اسمه ولي هاشم فهل تعرف هذا السائح؟
إن قلتَ: نعم.
قلتُ لك: عرفنا به وبحاله لننظر فيها ولتوفر على الدكتور ما طالبته به ولتوفر على القراء كذلك، أما إن قلت لا فكيف تستدل بهذه القصة إذاً؟!
أخي الكريم إنني أختلف مع الدكتور الكريم خلدون ومع الأخ الكريم الجيرودي فالسائح التركي ليس مجهول الحال، وأختلف معك كذلك فليس بمستور الحال، لكنه بالنسبة للقراء حتى هذه اللحظة مجهول العين كذلك!
¥