تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إذن الدّول الأوربيّة الصليبيّة أوجدَت هذه الفتنة لتكون ذريعةً لها في احتلالها لبلاد الشام وفصلها عن الدولة العثمانية، ولم تكد تلك الفتنة تبدأ حتى رأينا القادة والملوك الغربيين يطالبون الدولة العثمانية بحماية المسيحيين وإلاّ سيتدخلون بجيوشهم لحماية إخوانهم في الدين (زعموا)، وما هي إلاّ أيام حتى رأى الناس الأسطول الفرنسي يرسو في ميناء بيروت ويُنزل قواته الغازية!!

وفي هذا أكبر دليل على النية المبيّتة والتخطيط المبيَّت لهذا الغزو، وما قضية المسيحيين إلاّ ذريعة؛ وما أشبه اليوم بالأمس!

وكانت فرنسا قد استطاعت إقناع أوربا أن تتولى هي أمر هذه الحملة بسبب قربها المذهبي من المسيحيين في لبنان، ولكونها المشرفة على الكنائس في بيت المقدس، في حين لم تستطع إنكلترا فعل ذلك لأنها على خلاف كبير في المذهب مع نصارى الشرق (فالإنكليز برتوستانت، ونصارى الشام أرثوذكس وكاثوليك)، لذلك عمدت إنكلترا لدعم الدروز حتى يكون لها مدخل في البلاد لتفويت الفرصة على منافستها فرنسا، والنتيجة واحدة بالنسبة للمسلمين، ففرنسا وإنكلترا في النهاية أعداء لهم! (المهم أنّ التحرّك الفرنسي كان بمباركة الإنكليز!!)

ومن الأدلّة على ضلوع فرنسا في الفتنة وأنها هي المُشعلة لها، أنّ الأمير عبد القادر أثناء قيامه بإطفاء تلك الفتنة والسيطرة على الأوضاع ومطاردة الغوغاء الذين هجموا على حي العمارة حيث دارُ الأمير التي يحتمي بها بعض النصارى، ألقى رجالُه القبضَ على بعض المهاجمين، فإذا فيهم عدد من المسيحيين اللبنانيين!!! نعم نصارى لبنانيون متنكرون بلباس المسلمين يقومون بقتل النصارى في دمشق. لماذا؟ لكي يعطوا فرنسا الذريعة لاحتلال البلاد بحجة الدفاع عن النصارى! [انظر كتاب (أصحاب الميمنة إن شاء الله) ص215]

وهذا التصرف ليس جديدًا، فعلى مرّ العصور كان المستعمرون يلجؤون لقتل بعض رعاياهم أو أبناء دينهم ويلصقون التهمة بالمسلمين (أو غيرهم) لكي يتسنى لهم تهييج شعوبهم وحملهم على القتال والاحتلال. والأمثلة في عصرنا هذا كثيرة كما لا يخفى.

وعندما بدأت الدول الأوربيّة تحرّكها وأرسلت إلى الدولة العثمانية تستنكر ما يجري في الشام، تكفّلت الدولة العثمانية للدول الغربية بأنها ستنتقم من الذين أشعلوا الفتنة وتقتصّ لرعاياها من النصارى ـ وذلك لكي لا تعطي للدول الأوربية الفرصة للتدخل في بلاد الشام ـ فبعثت فعلاً فؤاد باشا (كما مرَّ معنا) أحد وزرائها العظام وفوضت إليه الأمر في جميع ما يفعل، فلما دخل الشام أمر برد الأموال المنهوبة، ثم شرع بالقبض على كل من سعى في تلك الفتنة فقتل منهم مَنْ قتل، ونفى من نفى. وانطفأت الفتنة.

(((ومع ذلك فإنّ الدول الأوربيّة؛ التي كانت عازمة على احتلال بلاد الشام؛ تظاهرت بأنها لم تقنع بما فعلته الدولة العثمانية، وأرسلت جيوشها ومراقبيها تحت قيادة الأسطول الفرنسي الذي رسا في ميناء بيروت، وما كان يخشى الأمير عبد القادر حدوثَهُ قد حدث فعلاً، فقد نزلت القوات الفرنسية في ميناء بيروت وتوجهت قواتها بريًا باتجاه جبال الدروز بحجّة القضاء عليهم، فتدخل الأمير لدى فؤاد باشا وطلب منه أن يبذل كل جهده في منع الجيش الفرنسي من تقدّمه، وبيّن له أن هذا الأمر إذا بدأ فإنه لن ينتهي إلا باحتلال سورية، لأن القتال في الأماكن الجبلية صعب وسيستغرق زمناً طويلاً، ومِنْ ثَمَّ ستجلب فرنسا إلى المنطقة أعدادًا كبيرة من الجنود ومع الوقت سيكون لديها الاستعداد الكامل لغزو المنطقة! (فالأمير خبير بالخطط والحيل الفرنسية)!

وجرت مفاوضات بين فؤاد باشا والجنرال الفرنسي "بوفور" إلاّ أنهما لم يتفقا. فقرر الجنرال الفرنسي الزحف باتجاه دمشق والتي سيبدأ بقصفها أولاً!

فلمّا بلغ الأمير أن قائد الحملة الفرنسية الجنرال بوفور يريد قصف دمشق من الصالحيّة، تمهيدًا لدخول دمشق، بعث الأمير برسالة لبوفور يطلب منه أن يوافيه في البقاع. وتوجّه الأمير ليلاً ومعه بعض أتباعه إلى معسكر الجيش الفرنسي واجتمع بالجنرال وأظهرَ له سوء عاقبة ما اعتمد عليه، فأصرَّ الجنرال على قصف دمشق ودخولها، فهدَّدهُ الأمير وقال له إنّهم إذا قصفوا دمشق أو حاولوا دخولها فإن العهود التي بينه وبين دولة فرنسا تصبح لاغية، وأنه سيكون أوّل المدافعين والمقاومين لأي حملة فرنسية تهاجم البلاد، وسيعود للجزائر ويباشر الجهاد هناك مجدَّدًا! بعد هذا التهديد الخطير عدلت فرنسا عن قصدها ورجعت الجيوش الفرنسية إلى بلادها خائبة وبلا طائل!))).انتهى [(نُخبة ما تُسر به النواظر .. ) ص258، و (تحفة الزائر) 2/ 95].

وهكذا استطاع الأمير عبد القادر بحنكته، وبُعْدِ نظره، والتزامه الكبير بالمسؤولية وبأوامر الشريعة الإسلامية، أن يحافظ على تماسك الدولة العثمانية، ويُبطل المخطط الأوربي لاقتطاع بلاد الشام من الدولة العثمانية، ويمنع جيوش فرنسا من دخول الشام ويردّها على أعقابها خائبة.

ولمّا رأى فؤاد باشا شجاعة المغاربة وما جُبِلوا عليه من قوة الجأش وشدّة الإقدام فاوض الأمير في أن يعيّن منهم كتيبة ليكونوا في خدمة الدولة العليّة، فوافق الأمير على طلب فؤاد باشا واختار منهم أربعمئة فارس وجعل السيد محمد بن فريحة رئيسًا عليهم.

([1]) إقليمان واقعان شمال اسطنبول وغرب البحر الأسود، واليوم هما ضمن أراضي رومانيا وبلغاريا، ويحدهما من الغرب صربيا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير