في حين أن المعروف عن الأمير أنه لم يكن يضع تلك الأوسمة حتى في المناسبات الرسمية وكان مظهره دائمًا عاديًا وبسيطًا، كيف لا وهو الذي كلما ازدادت شهرته وتعظيم الناس له ازداد تواضعًا وتبسّطًا، هذا كان منهجه وطريقته كما وصفه المترجمون له. والأمير كان ذائع الصيت مُحْتَرَمًا عند الجميع ومآثره معروفة فلا حاجة له إلى إظهار الأوسمة أو ما شابهها ليلفت انتباه الآخرين. بخلاف غيره!!
والناظر إلى الصورة الفوتوغرافية الشخصية للأمير والتي فيها تلك الأوسمة، يجد أنّ الأوسمة الثلاثة التي وُضِعت أعلى الصدر إنما هي الأوسمة العثمانية!، وإلى أسْفَلَ منها يجد الأوسمة الأربعة الأخرى، وأمّا الشريط الأحمر الذي يتقلّده فهو وسام (الليجون دونور) الفرنسي.
والعجيب أنّ بعض الناس المروّجين لتهمة انتساب الأمير إلى الماسونية، إذا سُئِلوا عن دليلهم على ما يزعمون؟ أجابوا بأنّ الشريط الأحمر الذي على صدر الأمير هو شعار الماسونية!!
وهذه سقطة كبيرة منهم، وسببها أنهم يجهلون أوصاف ورتب الأوسمة الخاصة بكل دولة. كما يجهلون شعارات الماسونية. فليس في شعارات الماسونية هذا الشريط (الوسام)، في حين أنه وسام معروف ومشهور وهو وسام (الليجون دونور) الفرنسي، وهذا مثبت في المراجع المتخصصة في هذا الشأن.
ومن بين الأوسمة الأوربية يوجد وسام فيه صليب!
وأنا لا أدافع عن الأمير في وضعه لذلك الوسام الذي فيه صليب، ولكن بناءً على كل ما ذُكر، لا يجوز لأحد أن يزعم أنّ وضعه لذلك الوسام دليل على الماسونية أو العمالة فضلاً عن الردّة!! فالموضوع كلّه عبارة عن اجتهاد فيما يُسمّى بالتكتيك السياسي ربما يُخطئ فيه الرجل وربما يُصيب؛ فهو يضع وسامًا فيه صليب ولا يضع صليبًا مستقلاً وبين الحالين فرق واضح؛ فإذا أراد بعض الباحثين المتخصصين والمطّلعين أن يحكم في القضيّة فله أن يقول: أخطأ الرجل أو أصاب. وليس له أكثر من ذلك، ولا يجوز له أن يسرح بخياله إلى ما هو أبعد من ذلك.
ويبدو أن حقيقة هذه الأوسمة والنياشين غابت عن الأخ محمد مبارك، وكما رأيناه في البداية يزعم أنّ الفتنة بدأت بقتل داود باشا مع أنها في الحقيقة انتهت بتنصيب داود باشا حاكمًا على جبل لبنان!! راح يروّج الآن لفكرة جديدة وهي أنّ الفتنة انتهت بالتدخل الأجنبي في بلاد الشام، وبذلك يكون الأمير قد قدّم خدمة جليلة للتاج الفرنسي!!
إذن الأحداث دائمًا مقلوبة عند الأخ صاحب (فك الشفرة)!!
لقد زعم أنّ الفتنة انتهت بالتدخل الأجنبي مع أنّ جميع المراجع التاريخية ـ والواقع أيضًا ـ تُأكّد أنّ الفتنة انتهت بجلاء القوات الأجنبية مخذولة.
وجميع المراجع ـ بل والوقائع ـ تُبيّن أن الأمير قدّم خدمة جليلة للدولة العثمانية، في حين يصرّ صاحب (فك الشفرة) وغيره على جعل تلك الخدمة في صالح فرنسا!!
ومَنْ هذا الذي يمكنه أن يقبل بهذا الكلام؟! وعن أي خدمة للتاج الفرنسي يتحدث الكاتب؟
الأمير أحبط المخطط الفرنسي الأوربي، وأجبر بحنكته ودهائه الجيوش الفرنسية على الرحيل، وحافظ على التبعيّة لدولة الخلافة، وحاز على رضا الخليفة (أمير المؤمنين)، وأنقذ بلاد الشام من الاحتلال الصليبي (الذي عاد ليحتلّ بلاد الشام ولكن بعد ستين سنة!! من أحداث فتنة النصارى هذه، أي بعد 37 سنة من وفاة الأمير).
ثمّ إنّ الأمير لم يكن المتصرف الوحيد في هذه الأحداث، لقد كان لوزير الخارجيّة العثمانية فؤاد باشا الدور الأكبر في إنهاء تلك الفتنة، وذلك بتوجيهات من الخليفة، وإنما كان دور الأمير هو منع استفحال الفتنة وتدهور الأوضاع ريثما يصل فؤاد باشا، وكما رأينا فإنّ فؤاد باشا هو الذي ردَّ المظالم وهو الذي سجن المتورطين في الفتنة وهو الذي أعدم وقتل ونفى! وهو الذي تفاوض مع الأوربيين، وهو الذي عيّن الحاكم النصراني لجبل لبنان، طبعًا ذلك كلّه بتوجيهات من الخليفة.
وهذا الموضوع لا يحتاج لكثير توضيح، فالأمير ليس له أي صفة حكوميّة رسميّة، وليس له أي منصب عسكري أو قيادي، فلا يمكنه أن يفعل ما فعله الوزير فؤاد باشا، فليس للأمير أي صلاحيات تمكنه من ذلك. والذي دفعَ الخليفة العثماني لشكر الأمير ومكافأته على موقفه، هو أنّ الأمير قام بدورٍ أنقذ فيه الدولة العثمانية من ورطة كبيرة بدافعٍ من التديّن والإخلاص لدولة الخلافة،
وهو غير مؤاخذ إن وقف على الحياد ولزم بيته وانعزل عن الأحداث!
فإذا كان البعض يرى أنّ إنقاذ الرعايا المسيحيين العزّل والنّازلين تحت الحكم الإسلامي هو خدمة للتاج الفرنسي أو الإنكليزي، فعليه أن يقول إنّ الخليفة ووزيره قاما بهذه الخدمة وليس الأمير عبد القادر! وطبعًا فإن هذا الكلام ضربٌ من الجنون.
والسؤال الذي كان يجب على الأخ الكاتب أن يسأله لنفسه قبل أن يتهم الأمير؛ هو:ما الذي استفادته فرنسا من موقف الأمير من أحداث 1860م؟؟ وما الذي استفادته إنكلترا؟؟
لقد مرّ معنا آنفًا كيف أنّ النصارى اللبنانيين كانوا يقتلون النصارى في دمشق بأمر من فرنسا لتتخذ من ذلك ذريعة للاحتلال؛ ومرّ معنا في رسالة الشكر التي بعثتها الحكومة البريطانية للأمير ثناؤها على موقف الأمير الإنساني تجاه المسيحيين!! ونحن نعلم (وفقًا لجميع المصادر التاريخيّة التي مرّت معنا سابقًا) أن بريطانيا هي التي حرّضت الدروز على النصارى!! وهي التي أغرتهم بقتلهم!! واليوم هي تثني على الأمير وتمدحه لأنه حمى النصارى!!!
ثمّ يأتينا البعض ليقول لنا إنّ الأمير خدم التاج الفرنسي أو التاج البريطاني!
أتمنى أن أكون قد أوضحت أحداث جبل لبنان وفتنة النصارى التي وصلت إلى دمشق، ودور الأمير عبد القادر في إطفائها، وإحباطه للمشروع الأوربي القاضي بفصل بلاد الشام عن الدولة العثمانية تمهيداً لاحتلالها. وبذلك تسقط الشبهة التي أوردها صاحب (فك الشيفرة) حول الأمير كسائر الشبه السابقة. وفي الحلقة القادمة سأتابع مسألة الماسونية بتفاصيلها إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين
خلدون مكي الحسني
للبحث صِلة إن شاء الله
¥