ظلمات الجهل وإطفاء نار التعصب الجاهلي، وإنقاذ تعيسيْ الحظ من يد الجهلة. واعلم أيها الأمير الأجلّ أننا واثقون بأن تقبلوا منا هذه الرسالة وإن كانت لا قيمة لها. حرر في باريس 2/ 10/1860م)).انتهى [انظر (تحفة الزائر) 2/ 101]
هذه الرسالة لم تكن مكتومة أو سريّة، ولم يُخفها أحد من أسرة الأمير، وأول من نشَرَها هو محمد باشا ابن الأمير عبد القادر في كتابه المذكور.
وكما يرى القارئ فمضمون الرسالة عبارة عن شكر وثناء وإعجاب أبدته هذه الجمعيّة لشخص الأمير، وكيف لا تفعل ذلك وهي الجمعيّة التي تروّج لنفسها بأنها المعنيّة بحقوق الإنسان والأخوة الإنسانية والنجدة!! وليس في الرسالة أي شيء يشير إلى كون الأمير من أعضاء تلك الجمعية أو المنتسبين إليها، بل ليس فيها ما يدل على أنّ الأمير كان يعرف تلك الجمعية أصلاً! وإن أسلوب الخطاب فيها هو أوضح دليل على أنّ الأمير لا صِلَة له بهذه الجمعيّة.
فهل مجرَّدُ وصول رسالة من جمعيّةٍ ما إلى أي شخصيّة مشهورة، يُعدُّ دليلاً على صِلَة تلك الشخصية بتلك الجمعية؟ الجواب: طبعًا لا!
ولكي أزيد الموضوع وضوحًا أقول: تحدثتُ في حلقات مضت، عن موقف الأمير عبد القادر من الأحداث التي جرت سنة 1860م في دمشق (فتنة النصارى)، وكيف تلقى الأمير بعدها رسائل الشكر والتقدير والأوسمة من الخليفة والسلطان العثماني، وكذلك من ملوك وقياصرة أوربة.
لم يكن هؤلاء وحدهم الذين أرسلوا إلى الأمير رسائل الشكر والتقدير، وإنما شاركهم في ذلك الكثير من الأدباء والعلماء والوجهاء العرب، المسلمين والمسيحيين، الذين نظموا القصائد والمدائح وأهدوها إلى الأمير، وألّفوا الكتب التي تدوّن وقائع تلك الحادثة وأهدوها إليه أيضًا، وكذلك شاركت في ذلك بعض الجمعيات الخاصة والأهلية، ومنها ما هو أوربي أو أمريكي؛ فأرسلت إلى الأمير رسائل تشيد بمواقفه وأخلاقه وشرفه.
أذكر منها:
1ـ (جمعية عمل الخير وإعانة المصابين في البرّ والبحر). وهذا نصُّ ما بعثت به إليه: ((إنّ جمعية المصابين المؤلّفة من أعيان الأمصار ووجوه المدن الشهيرة في فرنسة، قد اتّفقت كلمتها على أن يكون الأمير عبد القادر رئيسَ شرفٍ لها، وإنما فعلتْ هذا لتؤكد له عظيم اعتبارها لجنابه الشريف، وجزيل تشكراتها الفائقة لما أبداه من أعمال الخير الجسيمة في سورية سنة ستين وثمانمئة، وبناءً على ذلك بعثت إليه هذا الرَّقيم كالشاهد على عقدها لِمَا اتّفقت عليه، وذلك في باريس آخر يونيو (حزيران) سنة إحدى وستين)).انتهى [تحفة الزائر 2/ 111ـ112]
2ـ (الجمعية الشرقية). وكانت الجمعية الأمريكية الشهيرة بالشرقية القائمة بتأليف تاريخ العالم، سبقت (جمعية عمل الخير) إلى مثل ما فعلته، وأرسلت إلى الأمير نسخةً من تقريرها؛ وصُورَتُه: ((بناءً على تقرير الجمعية الأميركانية الشرقية، وعلى قرار المجلس قد أعلنت بتعيين الأمير السيد عبد القادر بن محيي الدين، عضوَ شرفٍ لها تتشرف بذِكْرِه، وبعثت إليه بهذه النسخة المطابقة للأصل إعلانًا بما قررته في باريس في الثاني عشر من (تموز) سنة ستين وثمانمئة وألف)).انتهى [تحفة الزائر 2/ 112]
ونلاحظ في خطاب هاتين الجمعيّتين أنّ أعضاءها قاموا بتسمية الأمير رئيسَ شرفٍ للجمعية الأولى، وعضوَ شرفٍ للثانية!! في حين أنّ خطاب الجمعية الماسونية ليس فيه شيء من ذلك!!
فلو أراد أحدُ هواة توجيه التُّهم أنْ يختلق تُهمة ويُلصقها بالأمير، لكانت تلك التهمة هي انتساب الأمير إلى جمعية إعانة المصابين أو الجمعية الشرقية! لأنّه سيجد في نص رسالتيهما ما يُلبّس به على الجهلة من الناس! بخلاف رسالة الجمعية الماسونية التي لن يجد فيها العبارات التي تساعده على إلصاق تلك التهمة! ولكن العجيب أنّ الذي حصل هو العكس!!
ومع ذلك أقول: إنه حتى في نص الرسالتين الموجّهتين إلى الأمير من جمعية إعانة المصابين والجمعية الشرقية، ليس هناك ما يدلّ على انتساب الأمير إليهما البتّة! وكل ما في الأمر أن أعضاء الجمعيّتين عيّنوه عضوَ شرفٍ فيهما من تلقاء أنفسهم ودون أي طلبٍ منه، ولا شأن له هو في ذلك لا من قريب ولا من بعيد! وهذه جمعيات خيريّة وهي تشكره على صنيعه فلم يكن هناك أي ضرورة لرفض تصرفاتها تجاهه، بل لو حدث شيء من ذلك لكان في غير مصلحة المسلمين!
¥