فلمّا اقتنع الأمير بجدوى هذا المشروع وما سيجلبه لبلاده من الخيرات الكثيرة في مستقبله المنظور ـ لأنّ الاحتلال الفرنسي لبلاده لن يدوم بل سيزول ـ كتبَ رسالة وأرسلها إلى الجزائريين يحثّهم فيها على تأييد هذا المشروع، وأوضح لهم الأهميّة التي ستنجم عن إنجاز هذا البحر، ودعَمَ آراءه بآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن عندما اطلع بعض الناس (من أصحاب فكر الاتهام والتشكيك في سلف الأمّة) بعد قرابة قرنٍ من وفاة الأمير على رأيه في المشروع أسرعوا وأطلقوا أحكامهم المنتقدة للأمير على موقفه هذا.
وقد تأثّر بعض الباحثين بهذه الانتقادات وبما كانت تروّجه بعض الكتابات الفرنسية، ولكنه سرعان ما استدرك الأمر وصدع بالحق.
وأقصد بهذا المؤرّخ الأستاذ الدكتور يحيى بو عزيز رحمه الله، الذي تعرّض لموضوع البحر الداخلي بالدراسة والبحث في عدّة رسائل ومحاضرات ثمّ جمع مضمونها في كتابه (مع تاريخ الجزائر في الملتقيات الوطنية والدُّولية) ومنه نقلتُ الموضوع؛ يقول الدكتور يحيى بو عزيز معلّقًا على مراسلة الأمير للجزائريين بخصوص المشروع: (( .. وراسلهم وذلك مما يدل على بعد نظره وتفهّمه، وإدراكه للأهمية الاقتصادية لهذا المشروع الضخم، رغم أنه كان بعيدًا عن الميدان، وليس صاحب اختصاص في الموضوع. وقد نشرنا عن هذا الموضوع دراسة وثائقيّة بمجلّة الأصاله انتقدنا فيها موقف الأمير، ثمّ لمَّا تعمّقنا في الموضوع بالبحث والدراسة اكتشفنا أنه على حق، فصححنا ذلك في الملتقى الثالث عشر للفكر الإسلامي بـ "تامنراست" عندما تناولنا هذا الموضوع بالبحث والدراسة من جديد)).انتهى [(مع تاريخ الجزائر) ص235]
رحِم الله الأستاذ بو عزيز؛ وهذا الموقف منه يدلّ على حرصه وتمسّكه بالحق، وسرعة رجوعه عن الخطأ بمجرّد ما لاح له الحق. وهذا هو دأب المنصفين والمتّقين من علماء المسلمين.
وقد أَسِفَ الدكتور يحيى بو عزيز على عدم إنجاز مشروع البحر الداخلي وتمنّى لو يُعاد النظر فيه اليوم، فقال: ((إن مشروع هذا البحر الداخلي الإفريقي، عظيم الأهمية، كثير الفوائد والمزايا ويا حبّذا لو يُعاد التفكير في إنجازه مرة أخرى بعد أن تحررت شعوب المنطقة من الاستعمار الأوربي. فتسعى كلٌّ من تونس والجزائر ولربما ليبية، لدراسته من جديد وفقًا للتطورات العلمية والتقنية الحديثة. وتعمل على إنجازه بواسطة الخبرة الدولية، ورؤوس أموال الدول البترولية العربية الغنية التي تملك أرصدة ضخمة في البنوك الأجنبيّة الأوربيّة، والأمريكية، ولربما اليابانية كذلك.
إن هذا البحر، رغم ما سيغمره من أراضٍ وقرى عمرانية كثيرة، ستكون له آثار ونتائج إيجابيّة على مستقبل الصحراء وسكانها في الآماد البعيدة. لأنه سيقضي على الجفاف الحاد والعزلة الشديدة والتخلّف الفظيع. ويسمح للأساطيل البحرية أن تصل إلى أعماق الصحراء لإفراغ وشحن حمولاتها المختلفة، وإيصال مرافق الحضارة إلى السكان العزّل بسهولة، وييسر الاتصال بين أعماق الصحراء والعالم الخارجي.
وإذا ما أنجز هذا البحر الداخلي، فإنه سيضاف إلى قائمة المنجزات العملاقة للجزائر، وجيرانها من بلدان الشمال الإفريقي، وسيقضي على خرافة التفوق الأوربي كذلك، ويفتح المجال على مصراعيه للرأسمالية العربية لتستثمر في مشاريع التنمية الاقتصادية العربية الإسلامية، بدلاً من استثمارها في مشاريع الأغنياء المترفين في أوربا وأمريكا ولربما اليابان)).انتهى [(مع تاريخ الجزائر) ص88]
فرحمة الله على الدكتور يحيى بو عزيز، ورحمة الله على الأمير عبد القادر!
أمّا الشبهة قبل الأخيرة التي أثارها بعض الناس حديثًا حول الأمير فهي حقًا من أعجب الشُّبَه!!
ألا وهي النجمة السداسية الموجودة في شعار الختم الذي تُختم به بعض أوراق الأمير. وقد زعموا أنه ختم الأمير الخاص.
أقول: إنّ هذا الختم الذي يتحدّثون عنه ليس ختمًا خاصًّا بالأمير، وإنما هو ختم الإمارة والدولة! وكانت الأوراق الرسمية (كالمعاهدات والمراسيم) تختم به في أعلاها، وهو دائري الشكل مكتوب في محيطه البيت المشهور من قصيدة البردة للبوصيري:
¥