[حقوق الجيل الناشئ علينا للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي]
ـ[عبد القادر بن محي الدين]ــــــــ[21 - 06 - 08, 03:01 ص]ـ
حقوق الجيل الناشئ علينا
(1) نشرت في العدد 145 من جريدة (البصائر) 5 مارس1951,انظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 3/ 273_276
للجيل الآتي علينا حقوق أوّليه مؤكّدة, لا تبرأ ذممنا منها عند الله ولا تسقط شهادة التاريخ علينا بها, إلا إذا أدّيناها لهم كاملةً غير مبخوسة وملاك هذا الحقوق
أن نعدّهم للحياة على غير الطريقة التي أعدّنا بها آباؤنا للحياة.
الأخلاق والآداب, والأفكار والإحساسات, والاتجاهات العامة, والمشخّصات هي الأمتعة التي يرثها جيل عن جيل, ومنها يتكوّن مزاجه صحة واعتلالاً؛ فماذا
وَرِثْنا عن آبائنا؟ وماذا نورث أبناءنا منها؟
ليس من العقوق أن نقول: إن آباءنا لم يورثونا شيئاً نافعاًَ من هذه الأمتعة, وليس من العقوق أن تقول: إن أباك خلفك فقيراً إذا كان عاش فقيراً ومات فقيراً.
بل من الإنصاف لهم أن نقولَ: إنهم ورثونا هذه الصفقة الخاسرة التي هي رأس مالنا اليوم من أخلاق لاتزنُ جناحَ بعوضة, وآداب لا تستقيم عليها حياة, وأفكار
بدائية لا تجول في المدار الواسع من الحياة, وعقول تقدّر فتخطئ, وتدبِّر فتبطئ, وإحساسات مذبذبة, واتجاهات خاطئة مدبّرة؛ وغير ذلك مما تركنا غرباءَ عن
عصرنا وأهل عصرنا, وصيّر الحياةَ منا في غير دار إقامة؛ فهل يحسن بنا أن نورث بنينا هذا السقط من الأمتعة بعد شعورنا ويقيننا بعدم كفايتها للحياة؟
يعذر هذا الجيل الذي نحن منه بأنه استلم التركة العامة أدوات معطلةً, وأسلحةً مفلولة, وأجهزة باليه من جيل انتهى به زمنه إلى درجة من الإفلاس المادّي
والأدبي, صيّرته في غير زمنه.
ولكنه لا يعذر إذا سلّمها كما هي إلى الجيل الآتي, ويقترف جريمة غش لا تغفر إذا حمل أوزاره وأوزار أجيال قبله على الجيل الآتي, بعد أن كشف
عررها, وتبين ضررها.
فتح جيلنا هذا عينه في ظلمات مضطرّبة, بعضها فوق بعض تتخللها بروق معشية, ورعود صاخَّة, ثم رجع بصره فإذا ذئاب تتخطف, وصوالجة تتلقّف،
وطفيليات أنبتها الدهر في دمنته، ثم رجع البصر كرتين فإذا أمامه مسافاتٌ مما قطع السائرون؛ ثم طلب الحياة, فإذا سبلها وعرة, والصراط إليها أرقّ (1) من
الشعرة وما زال هذا الجيل يتعثر في أذيال الماضي, ويتخبط في ظلمائه, ويحمل من أثقاله ما يقعد به كلما رام النهوض وإن أثقل ما يعانيه من تلك الأوزار,
اختلافُ الرأي حتى فيما تبينت طريقته, ولجاجُ الفكر حتى فيما ظهرت حقيقته.
حرام علينا أن نرضى للجيل الآتي بما لم نرض به لأنفسنا, وأن نجرّعهم هذا الحنظل الذي تجرّعناه, وأن نلوّث نفوسهم البريئة بهذه القاذورات، وأن نبتليهم بما
ابتلانا به آباؤنا من أدواء التفرُّق المهلك، والأنانية الكاذبة، والغرور المدُلي، والتنكر للقريب، والخضوع للغريب.
حرام علينا أن نقلدهم هذه الأسلحة المسمومة؛ فيتفانون كما تفانينا، ويذوق بعضهم بأسَ بعض، ويشقون جميعاً، ويسعد بشقائهم الغير.
حرام علينا أن نسلم إليهم شيئاً من هذه التركة التي يجب أن تنفقَ في جهاز الميت فتدفنَ معه، ويأمن الأحياء شرها، إذ لم ينالوا خيرها.
السبيل القويم الذي يؤدي إلى حفظ الجيل الجديد من هذه
(1) هكذا في الأصل ولعلها: أدق (م).
الشرور المتوارثة، وإلى توثيق عُرى الأخوة بين أفراده، وإلى توحيد أفكاره ومشاربه واتجاهاته، وإلى تصحيح فهمه للحياة، وتسديد نظرته إليها، وتشديد
عزيمته في طلبها هو المدرسة العربية التي تصقل الفكر والعقل واللسان، وتسيطر عليها، وتوجيهُ الجيل الناشئ إلى الإسلام والعرب، وإلى الشرق
والروحانية؛ فعلى هذه المدرسة يتوقَّف جزء كبير من ذلك الواجب الثقيل، وعليها يتوقف حظ كبير مما نرجوه لهذا الجيل وبهذه المدرسة نستطيع أن نبرئ ذممنا
من حقوق أبنائنا، وأن نكفر عن سيئات اجترحها أجيالنا الماضية.
لا نغالط أنفسنا، فنزعم لها أن هذه اليقظة البادية الآثار، المتفشية في الجيل القديم كافيةٌ في توجيه الجيل الجديد إلى الخير، وفي توحيد ميوله على الخير، أو
نزعم لها أن هذا الحظ التافه الذي حصلنا عليه من التعليم الأجنبي يغنينا أو يعيننا في هذا الصدد، أو نزعم لها أن الحالة الحاضرة للمدرسة العربية توصل إلى
هذه النتيجة المرغوبة.
¥