تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما كلمة "الإله" فهو لفظُ وصفٍ، يدل على معنى شعوري قلبي؛ ولذلك فهو يتعدد، إذ يجمع على "آلهة". وأما باقي العبارات في "لا إله إلا الله" فهي "لا" النافية، و"إلا" الحاصرة، تقومان بدور البناء والتركيب اللغوي؛ للنفي والإثبات، الذي يربط نوع العلاقة في قلب المؤمن بين الوصف "إله" والاسم "الله". وحقيقة تلك العلاقة هي ما يهمنا في هذا البحث. إنها علاقة تملأ الوجدان بما يفيض به قلب العبد المعبّر بها حقا وصدقا من الاعتقاد والشعور تجاه مولاه جلّ علاه.

ذلك أن كلمة "إله" في أصل الاستعمال اللغوي كلمة قلبية وجدانية، كما ذكرنا. أعني أنها لفظ من الألفاظ الدالة على أحوال القلب كالحب والبغض والفرح والحزن والأسى والشوق والرغبة والرهبة ... إلخ. أصلها قول العرب: "ألِهَ الفَصيلُ - يَألَهُ - ألَهاً" إذا ناح شوقا إلى أمه. والفصيل ابن الناقة إذا فطم، وفصل عن الرضاع، يحبس في الخيمة وتترك أمه في المرعى، حتى إذا طال به الحال ذكر أمه وأخذه الشوق والحنين إليها -وهو آنئذ حديث عهد بالفطام- فناح وأرغى رغاء أشبه ما يكون بالبكاء، فيقولون: "ألِهَ الفصيلُ" فأمه إذن ههنا هي "إلهه" بالمعنى اللغوي، أي ما يَشُوقُه. ومنه قول الشاعر: "ألِهْتُ إليها والرَّكائِبُ وُقّفٌ"

جاء في اللسان: اسم "الله": تفرد سبحانه بهذا الاسم، لا يشركه فيه غيره، فإذا قيل: "الإله" انطلق على الله سبحانه وعلى ما يعبد من الأصنام. وإذا قلت "الله" لم ينطلق إلا عليه سبحانه وتعالى. وقيل في اسم الباري سبحانه: إنه مأخوذ من ألِهَ - يَأْلَهُ: إذا تحيَّرَ، لأن العقول تَأْلَهُ في عظمته. وأَلِهَ يَألَهُ ألَهاً: أي تحيَّرَ، وأصله وَلِهَ يَوْله وَلَهاً. وقد أَلِهْتُ على فلان: أي اشتد جزعي عليه مثل وَلِهْتُ. وقيل: هو مأخوذ مِن ألِهَ يَألَهُ إلى كذا، أي: لجأ إليه؛ لأنه سبحانه الْمَفْزَعُ الذي يُلْجَأُ إليه في كل أمر" (1). إذ "الإله" في هذا السياق اللغوي هو: ما يَشُوقُ القلب، ويأخذ بمجامع الوجدان، إلى درجة الانقياد له والخضوع. قال عز وجل: ?أفَرَأيْتَ مَن اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ? (الجاثية:22).

والراجح فعلا أن "ألِهَ" هو من "وَلِه" ومنه اشتق الاسم العلم "الله"؛ لأن مدار كلا المادتين على معاني القلب، فأبدلت من الواو همزة. قال الراغب الأصفهاني: "ألَه فلانٌ - يأله: عَبَدَ. وقيل: أصله وِلاه، فأبدل من الواو همزة، وتسميته بذلك لكون كل مخلوق والِهاً نحوه، إما بالتسخير فقط كالجمادات والحيوانات، وإما بالتسخير والإرادة كبعض الناس، ومن هذا الوجه قال بعض الحكماء: الله محبوب الأشياء كلها" (2).

و"الوَلَهُ": هو الجنون الحاصل بسبب الحب الشديد، أو الحزن الشديد، يقال: امرأة وَلُوهٌ: إذا أحبت حتى جنت، أو إذا ثكلت؛ فحزنت حتى جنت. قال ابن منظور: "الْوَلَهُ: الحزن. وقيل هو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد، أو الحزن أو الخوف. والوله: ذهاب العقل لفقدان الحبيب وناقة مِيلاهٌ: هي التي فقدت ولدها فهي تَلِهُ إليه. يقال: وَلَهَتْ إليه تَلِهُ أي تحنّ إليه وناقة وَالِهٌ: إذا اشتد وجدها على ولدها" (3).

عقيدة حب ووجدان

وهكذا فأنت ترى أن مدار المادتين "أله" و"وله" هو على معان قلبية، ترجع في مجملها إلى التعلق الوجداني والامتلاء بالحب، فيكون قول المؤمن "لا إله إلا الله" تعبيرا عما يجده في قلبه من تعلق بربه تعالى، أي لا محبوب إلا الله، ولا مرهوب إلا الله، ولا يملأ عليه عمارة قلبه إلا قصد الله. إنه أشبه ما يكون بذلك الفصيل الصغير الذي ناح شوقا إلى أمه، إذْ أحس بألم الفراق ووحشة البعد. إن المسلم إذ "يشهد" ألا إله إلا الله، يقر شاهدا على قلبه أنه لا يتعلق إلا بالله رغبةً ورهبةً وشوقاً ومحبةً. وتلك لعمري "شهادة" عظيمة وخطيرة، لأنها إقرار واعتراف بشعور، لا يدري أحد مصداق ما فيه من الصدق إلا الله، ثم الشاهد نفسه، ومعاني القلب لا تحد بعبارات ولا تحصرها إشارات. ومن هنا كانت شهادة "ألا إله إلا الله" من اللطافة بمكان، بحيث لا تدرك على تمام حقيقتها إلا ذوقا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير