ووجه الدلالة: أنه إذا ثبتت الرخصة في ترك المبيت بمنى لأهل السقاية وهم يجدون مكاناً للمبيت بمنى، فمن باب أولى أنْ تثبت لمن لم يجد بمنى مكاناً يليق به؛ لأن الرخصة ثبتت لأهل السقاية لأجل الناس، مع أن السقاية تحصل من غيرهم، فكيف لا تثبت الرخصة لمن عجز عن المبيت، ولمن لا يجد مكاناً يبيت فيه.
الدليل الثاني: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر. أخرجه مالك في الموطأ (1/ 408)، وأحمد (5/ 450)، وأبو داود (1975)، والترمذي (955)، والنسائي (5/ 273)، وابن ماجه (3037).
والذي لا يجد مكاناً يصلح للمبيت بمنى أولى بالرخصة من رعاة الإبل، وهذا ظاهر.
الدليل الثالث: ما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما - أنه كان يقول: "إذا كان للرجل متاعٌ بمكة يخشى عليه الضيعة إنْ بات بمنى، فلا بأس أن يبيت عنده بمكة" أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وغيره.
وقد ألحق أهل العلم بمن تقدم كلَّ من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يحتاج أن يتعهده.
وفي معنى هؤلاء في جواز الترخص بترك المبيت بمنى، بل أولى به منهم: من لا يجد مكاناً يليق به يبيبت فيه، وكذلك من خرج ليطوف بالبيت الحرام فحبسه الزحام حتى فاته المبيت بمنى؛ فإن تخلفهما عن المبيت بمنى سببه أمر خارجي، ليس من فعلهما، ولا يستطيعان رفعه.
تنبيه
الطرق ليست مكاناً للمبيت، وكون المرء يجد فيها مكاناً للمبيت لا ترتفع بمثله الرخصة، بل لا ينبغي لأحدٍ أن يبيت بها، ومن فعل فقد أساء وتعدى وظلم، بل ويخشى عليه الإثم؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجلوس في الطرقات، ولا يخفى ما في المبيت في الطرقات من تعريض النفس للتهلكة، وانكشاف العورات، لا سيما من النساء، وما يسببه جلوسهم وإيقاف سياراتهم على جنبات الطريق من التضييق والزحام وتعطيل السير.
ولا شك أنَّ حفظَ النفس والعرض أولى من واجبٍ وردت الرخصة بسقوطه عن العاجز وذي الحاجة، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ولذا فإن الافتراش الحاصل الآن في الطرقات وتحت الجسور وما يسببه من مضار على الحجاج، وإعاقة للسير، وتضييق للطرق وتعريض النفس والغير للأذى والهلكة من العسر والحرج الذي جاءت الشريعة السمحة برفعه، "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج:78] وإيذاء للنفس وتعذيب لها، (والله غني عن تعذيب هؤلاء أنفسهم)، كما أن في صورة هذه الحشود بهذا المنظر المزري والذين يعلن على العالم كله إساءة بالغة لسماحة الشرع المطهر الذي ماجاء بشيء من هذا ولا أمر به.
المسألة الخامسة: الزحام وما ورد من النهي عنه.
لا خلاف بين أهل العلم أنه ينبغي على المسلم أن يتحرى هدي النبي – صلى الله عليه وسلم - في كل موطن من مواطن العبادة ما دام أنه في حال السعة والقدرة، وأنه لا ينبغي على أحد أن يترك السنة وهو لا يجد في فعلها حرجاً ولا مضارةً بأحد.
غير أن أهل العلم لا يختلفون ـ كذلك ـ في أن المستحبات إذا ترتب على فعلها تركُ واجب أو ارتكاب محرم تعيَّن تركها وجوباً لا استحباباً؛ لأن مصلحة تركها راحجةٌ على مصلحة فعلها، ولأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وفي الشريعة قواعد كثيرة تقرر هذا وتدعمه، فمنها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: قاعدة (مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة المتعلقة بزمانها أو مكانها).
فالطواف بجوار الكعبة أفضل منه بعيداً عنها، ولكن عند الزحام والتدافع يكون الطواف بعيداً عنها أفضل، لما يُحدثه القُربُ من التشويش والمضايقة وعدم السكينة، والانشغال عن الذكر والدعاء، بخلاف البعد عنها: إذ تتهيّأ فيه الطمأنينة والسكينة والخشوع، والأفضل من ذلك كله أن يؤخِّر الطواف حتى يخف الزحام. فإن الفضائل المتعلقة بذات العبادة: مراعاتها أولى من الفضائل المتعلقة بمكانها وزمانها.
هذا إذا كان الزحام محتملاً، فكيف إذا كان مظنة الهلاك؟!!!، لا شك حنيئذ أن تأخيره متعين.
ثانياً: قاعدة (إذا تعارضت مصلحتان إحداهما صغرى، أو خاصة، والأخرى كبرى، أو عامة، فإن الكبرى تُقدم على الصغرى، والعامة تقدم على الخاصة).
والقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).
والأمثلة على هاتين القاعدتين كثيرة:
¥