وفي الصحيحين عنه من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر، فألقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً" فقال له عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من أقوام قد جيفوا! فقال: "والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جواباً".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه.
وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب منزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به.
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور: باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء: حدثنا يحيى بن يمان عن عبد الله بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم".
حدثنا محمد بن قدامة الجوهري حدثنا معن بن عيسى القزاز أخبرنا هشام بن سعد حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام.
حدثنا محمد بن الحسين حدثني يحيى بن بسطام الأصغر حدثنى مسمع حدثني رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أليس قد مت؟ قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
وحدثنا حمد بن الحسين حدثنا بكر بن محمد حدثنا حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي الجبان، فنقف على القبور، فنسلم عليهم، وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت: ذات يوم لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين، قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها .. وذكر آثاراً كثيرة ثم قال: وهذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة، وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول: اللهم إني أعود بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائراً، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائراً، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال زاره .. هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضاً، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية.
وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويردوا إن لم يسمع المسلم الرد، وإذا صلى الرجل قريباً منهم شاهدوه، وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك.
قال يزيد بن هارون: أخبرنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أن ابن ساس خرج في جنازة في يوم، وعليه ثياب خفاف فانتهى إلى قبر، قال: فصليت ركعتين ثم اتكأت عليه، فوالله إن قلبي ليقظان إذ سمعت صوتاً من القبر: إليك عني لا تؤذني، فإنكم قوم تعملون ولا تعلمون، ونحن قوم نعلم ولا نعمل، ولأن يكون لي مثل ركعتيك أحب إلي من كذا وكذا، فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر وبصلاته. وقال: وهذه المرائي وإن لم تصح بمجردها لإثبات مثل ذلك فهي على كثرتها، وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر. يعني: ليلة القدر".
فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على اسحتسانه واستقباحه، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا، بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها. وقال: وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص هو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه؟ أما بشرك رسول الله بكذا، فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإني على أطباق ثلاث ... ثم ذكر الحديث، وفيه: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا على التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ما أراجع به رسل ربي، ثم قال: فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره، ويسر بهم.
وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، قال عبد الحق يروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة، وقال: ويدل على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً، وإلى الآن من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثاً. وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتج عليه بالعمل.
وانظر الفتوى رقم: 24019، والفتوى رقم: 15281، والفتوى رقم: 8268.
والله أعلم.
¥