والمراد من ذلك بيان اتفاق أهل العلم من سائر المذاهب على منع أهل الذمة من سكنى الحرم والحجاز وإذا كان أهل الذمة من اليهود والنصارى ممنوعون من دخول الحرم مطلقا، ومن البقاء في الحجاز أكثر من ثلاثة أيام، فغيرهم من المشركين من غير أهل الكتاب ممنوعون من باب أولى، وإذا كان المشركون كلهم ممنوعين من البقاء في جزيرة العرب على الوجه المتقدم تفصيله، فمنعهم من بناء كنيسة أو معبد من معابد المشركين في هذه البقعة من الأرض أولى وأولى، إذ ليس كل ما جازت سكناه لأهل الذمة جاز لهم بناء كنيسة فيه، والمنع من بناء كنيسة أو معبد للمشركين في جزيرة العرب مما اتفق عليه أهل العلم
وأما ما عدا الحرم والحجاز: فهو يشمل بالنسبة للمشركين أقساما ثلاثة: قسم أحياه المسلمون، وقسم ملكه الغانمون عنوة، وقسم صولح عليه أهله.
القسم الأول: فأما القسم الذي أحياه أو مصَّره المسلمون مثل البصرة والكوفة وبغداد والقاهرة ونحو ذلك مما أنشأه المسلمون في القديم أو الحديث، فهذه البلاد صافية للإمام إن أراد أن يقر أهل الذمة بالسكنى فيها جاز، فلو أقرهم على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمرا أو خنزيرا أو ناقوسا لم يجز، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العهد والشرط فاسدا، وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع، وحقوق أهل الذمة عند المسلمين أولى وآكد من المعاهدين والمستأمنين لأن أهل الذمة من رعايا دار الإسلام ومواطنيها، فإذا لم يجز لأهل الذمة مع ذلك إحداث كنيسة أو بيعة في المدن التي أنشأها المسلمون، فهو من باب أولى لا يجوز للمعاهدين أو المستأمنين.
وقد نقل ابن القيم كثيرا من أقوال أهل العلم التي تدل على ما تقدم ثم علق عليها بقوله: "وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى أصول الشرع وقواعده: فإن إحداث هذه الأمور إحداث شعار الكفر، وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير، فإن تلك شعار الكفر، وهذه شعار الفسق، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق، فكيف إحداث موضع الكفر والشرك؟ "
وذلك أن الإسلام هو دين الحق وكل ما عداه من الدين باطل، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، واليهود والنصارى بعد مجيء الإسلام يكفرون ببقائهم على دينهم وترك الدخول في الإسلام، لا ينكر هذا أو يجادل فيه إلا من رضي بترك الإسلام وراءه ظهريا.
والنصارى لا يوحدون الله في كنائسهم ولا يعبدونه بل يشركون به، ويعبدون معه غيره، والمسلمون مأمورون بعبادة الله والدعوة إلى ذلك ومنع الشرك بالله في الأرض حسب طاقتهم واستطاعتهم، فالإسلام في دعوته لغير المسلمين إنما يريد لهم الخير والسعادة الأبدية، فمن كان هذا توجهه وله قدرة واستطاعة على تحقيق ذلك فكيف يلام عليه ويطلب منه التقاعس عن أداء هذا الأمر، وأقل ما يمكن عمله في هذا الجانب هو عدم مساعدتهم على شركهم والتي منها عدم السماح ببناء كنائس ومعابد في أمصار المسلمين يشركون فيها بالله تعالى ويسبونه.
وقد أورد ابن القيم سؤالا فقال:" فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصَّرها المسلمون؟.
قيل: هي على نوعين: أحدهما: أن تحْدَث الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر فهذه تُزال اتفاقاً.
والثاني: أن تكون موجودة بفلاة من الأرض، ثم يمصر المسلمون حولها المصر، فهذه لا تُزال، واللّه أعلم".
وقال ابن قدامة: "وما وجد في هذه البلاد (التي مصَّرها المسلمون) من البيع والكنائس , مثل كنيسة الروم في بغداد , فهذه كانت في قرى أهل الذمة (قبل التمصير) , فأقرت على ما كانت عليه"، وأما البلدان التي أسلم أهلها عليها فحكمها حكم ما مصره المسلمون
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير التمصير: "يكون التمصير على وجوه: فمنها البلاد التي يسلم عليها أهلها، مثل المدينة والطائف، واليمن، ومنها كل أرض لم يكن لها أهل فاختطها المسلمون اختطاطا ثم نزلوها، مثل الكوفة والبصرة، وكذلك الثغور، ومنها كل قرية افتتحت عنوة، فلم ير الإمام أن يردها إلى الذين أخذت منهم، ولكنه قسمها بين الذين افتتحوها كفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر، فهذه أمصار المسلمين، التي لا حظ لأهل الذمة فيها، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعطى خيبر اليهود معاملة لحاجة المسلمين كانت إليهم، فلما استغني عنهم
¥