تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهناك تعقب في حاشية رد المحتار على منع الإحداث في ما فتح عنوة قال: "ليس على إطلاقه أيضا بل هو فيما قسم بين الغانمين أو صار مصرا للمسلمين، فقد صرح في شرح السير بأنه لو ظهر على أرضهم وجعلهم ذمة لا يمنعون من إحداث كنيسة، لان المنع مختص بأمصار المسلمين التي تقام فيها الجمع والحدود، فلو صارت مصرا للمسلمين منعوا من الإحداث، ولا تترك لهم الكنائس القديمة أيضا، كما لو قسمها بين الغانمين لكن لا تهدم، بل يجعلها مساكن لهم، لأنها مملوكة لهم، بخلاف ما صالحهم عليها قبل الظهور عليهم، فإنه يترك لهم القديمة ويمنعهم من الإحداث بعدما صارت من أمصار المسلمين"

فهذه أقوال علماء من أكبر علماء الحنيفة علما وإحاطة بالمذهب وكتب المذهب كلها تجري على ذلك، ولولا الإطالة التي تكون غير مناسبة في مقال وليس كتابا لنقلت من كتب الحنفية أقوالهم في ذلك التي تبين اتفاقهم على ذلك الكلام، فهل تجد فيها هذا الإطلاق والموافقة على جواز الإحداث في أمصار المسلمين كما أوهم من أفتى بذلك واحتج بأبي حنيفة؟

وخلاصة الكلام المتقدم:

1 - أن ما مصره المسلمون فلا يجوز إحداث كنيسة أو بيعة فيه باتفاق أهل العلم، وأن ما وجد من ذلك في بعض أمصار المسلمين فقد كان قائما قبل التمصير، فلما مصر المصر وامتد واتسع دخلت فيه هذه المعابد فلم يجب هدمها؛ لأنها سابقة على التمصير.

2 - ما فتحه المسلمون عنوة أي بقهر السيوف فالذي جرى به عمل الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن لا تهدم المقامة قبل الفتح وتظل كنيسة كما هي، وللحنفية رأي أنها لا تهدم لكن لا تصير كنيسة بل تصير سكنا (وهناك قول بوجوب هدمها)، وأما الإحداث فالذي عليه جمهورهم أنه لا يجوز، وهناك قول عند الحنفية أن المنع من الإحداث مختص بما قسم بين الغانمين، أو صار مصرا للمسلمين، لكن لو ظهر عليهم وجعلهم أهل ذمة فإنه يجوز لهم الإحداث، وهذا القول عندهم ليس على إطلاقه فلو صارت مصرا بعد ذلك منعوا من الإحداث، ولا تترك لهم الكنائس القديمة أيضا لكنها لا تهدم وإنما تصير مساكن لهم، ومع ذلك فإن القول بجواز الإحداث في أرض العنوة لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين

3 - ما صولح عليه المشركون فإنه يوفي لهم بما صولحوا عليه من إبقاء القديم وإحداث الجديد

شبهات لا وزن لها: هناك من يذكر بعض الشبهات على ما تقدم تقريره وهي شبهات لا وزن لها فمن ذلك:

1 - أن عدم السماح ببناء معابد للمشركين يعني رفض الآخر وعدم السماح بحرية التدين أو ممارسة ما يعتقده من عبادات:

وهذا تصوير فاسد للقضية فلو كانت المسألة على ما يصورونه من أنه رفض للآخر لما وجد في بلاد المسلمين من يدين بغير الإسلام، ولخُيِّر هؤلاء بين الإسلام، أو ترك البلاد والهجرة منها، أو القتل، كما حدث في الأندلس (أسبانيا) مع المسلمين حينما غلب عليها النصارى، وأما القول بعدم حرية التدين فقول ساقط فإن أحدا منهم لم يجبر على ترك دينه، وأما المنع من ممارسة ما يعتقده من عبادات فبإمكان الواحد منهم أن يعبد بما شاء-لو أراد-في بيته وسكنه وليس يمنعه من ذلك إلا تكاسله هو عن أداء ما يعتقده من العبادة، وليس هناك تلازم بين ممارسة ما يعتقده من عبادات وبين بناء معابد للمشركين في بلاد المسلمين.

2 - أن النصارى في الغرب يسمحون للمسلمين ببناء المساجد فينبغي أن يعاملوا بالمثل:

أولا المسلمون يمنعون من كثير من أمور دينهم ولا يسمح لهم بها فالحجاب مثلا تمنع منه النساء المسلمات في كثير من بلاد النصارى كما حدث في فرنسا وغيرها، والمسلمون ممنوعون أيضا في أمريكا من الزواج بزوجة ثانية لأن القانون الأمريكي يمنع من ذلك، وهناك بلدان تمنع ختان الإناث رغم أنه أمر مشروع في ديننا، بل بلغ من طغيانهم أنهم يحاولون إلزام المسلمين به في بلادهم عن طريق قرارات الأمم المتحدة، بل بلغ الأمر بدولة مثل بريطانيا وأسبانيا أن تفرض عقوبة صارمة بالسجن على من يختنون بناتهم ولو حدث ذلك خارج البلاد، ومن جانب آخر فليس من المعقول أن نكافئ دول الغرب على تمسكها بقانونها العلماني الذي يتيح لكل طائفة أن يكون لها معابدها الخاصة بها بأن نخالف (قانوننا الخاص) ونبيح لهم ما تمنعه الشريعة، وليس معنى أن يوافق هؤلاء على ظهور رموز التوحيد في بلادهم أن نوافق نحن على ظهور رموز الشرك في بلادنا

3 - فتوى أحد العلماء بجواز بناء الكنيسة في أمصار المسلمين بناء على حق ولي الأمر في ذلك انطلاقا من فقه السياسة الشرعية التي تقوم على رعاية مقاصد الشرع ومصالح الخلق: وهذا لا شك كلام ساقط لا قيمة له، إذ هو مجرد تصورات من قائله ليس فيه قال الله تعالى قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو في الوقت نفسه مخالف لما تقدم نقله من الأدلة ومن أقوال أهل العلم، وأما القول: إن هذا السماح من حق ولي الأمر في ذلك انطلاقا من فقه السياسة الشرعية، فالمعلوم أن ولي الأمر مهما بلغ فليس من حقه مخالفة الأحكام الشرعية، وأنه لا طاعة له فيما خالف فيه الشريعة، وأن عصيانه فيما خالف فيه الشريعة هو الواجب المتعين، وأما الزعم بأن هذا العمل يعد من رعاية مقاصد الشرع فهذا من الكذب على الدين إذ ليس في السماح بإعلان شعار الكفر في أمصار المسلمين أية رعاية لمقاصد الشرع بل هي على الضد من مقاصد الشرع، وأما القول بأن هذا من مصالح الخلق فقد يكون هذا صوابا بالنسبة للكفار وأن ذلك مصلحة لهم لكنه في الوقت نفسه ليس فيه مصلحة للمسلمين بل فيه المفسدة، ولست أدري بأي فقه تغلب مصلحة مئات أو ألوف على مصلحة مئات الألوف أو الملايين!

نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك قريب مجيب يا ذا الجلال والإكرام.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير