تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فعندما لا يصل الحوار إلى الغاية الربانية المرجوة منه فلا بد من الوضوح والخروج بموقف قوي وبيان ظاهر لا يحتمل التأويل كما قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران/70 - 71]، وأيضاً: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [آل عمران/99]، (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران/64].

لقد أرشد القرآن الكريم في غير آية إلى المجادلة والمحاورة بالتي هي أحسن وإلى إلانة القول حتى مع أشد الناس كفراً وعتواً؛ كفرعون الذي نازع الله عز وجل الربوبية، قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون عليهما السلام: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه/44]، فمع أنه سبق في علم الله أنه لن يتذكر ولن يخشى لكنه سبحانه وتعالى يرشد المؤمنين إلى هذا المنهج الرباني، وبرغم هذا الإرشاد فإن إلانة القول لم تمنعهما عليهما السلام من الصدع بالحق وإن كان مُرّاً قاسياً على فرعون: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه/48]، ثم لمّا ظهر لهما فيما بعد عناده وتكذيبه لم يعد هناك وجه لإلانة القول: (فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) [الإسراء/101، 102] فهو يقول لفرعون: أنت تكذب في دعواك وأنا على يقين من هلاكك لعتوك وتكبرك وطغيانك. وهي سنة كونية لكل طاغ وظالم ومتكبر، ولذلك من كان كذلك فلا حوار معه بالحسنى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت/46].

ومع تقرير ما سبق من كون الحوار منهجاً ربانياً، إلا أنه من أخطر ما تواجهه الأمة في موضوع الحوار أن يُفرض عليها فرضاً ثم يتصدى له من أبنائها من يشعر بالضعف والعجز والهلع، فيدخل الحوار على خلفية ضعف الأمة وقلة حيلتها متلبساً بهزيمة نفسية، وقد وطن نفسه على القبول بما يجود به المحاور أو على التنازل؛ بدعوى المصلحة، أو الاعتدال، أو الوسطية وغير ذلك؛ ويغيب عن أذهان هؤلاء ما كان من بون شاسع بين استعلاء فرعون وجبروته وطغيانه، وضعف قوم موسى وذلتهم وقلة حيلتهم، وبرغم ذلك قال الله عز وجل لموسى وهارون ومن معهما: (بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [القصص/35]، قال ابن جرير رحمه الله: "أي بحُجَّتِنا"، وهذه هي حقيقة الانتصار، فالانتصار هو انتصار المبادئ لا بقاء الأبدان والبلدان مع الذل والهوان، (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران/139].

فعلى أهل الحق أن يعتزوا به وليعلموا أنهم يأوون إلى ركن شديد، وأن ما يظهر من ضعف في الأمة مما يغري أعداءها بالحصول على تنازلات في جوانب شتى، وينبغي ألا تعني مظاهر الضعف هذه عند عقلاء بني الإسلام أن الأمة لا تملك من عناصر القوة ما تقوم به في وجه عدوها (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) [محمد/35]، وهذا ما أدركه أعداؤها على أرض الواقع في ميادين الجهاد مما جعلهم يسعون للحوار بزخم غير مسبوق، وما ذاك إلا ليحصلوا في ميدان الحوار على ما عجزوا عنه في ميدان القتال.

وفي الختام لا نملك إلا أن نتوجه بالنصح لمن يتصدى للحوار كي لا يقع في حبال التنازلات، وليتذكر ما روي عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله يوم نصحه ناصح أن يقول بخلق القرآن مداراة بحجة أن الله عز وجل يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء/29] فأشار الإمام إلى الجموع الغفيرة التي تحمل الصحف والأقلام لتكتب عنه ما يقول ثم قال: أأضل هؤلاء كلهم؟!

نعم، فقد حمَّل الله عز وجل العلماء أمانة عظيمة: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران/187] وما دام الأمر كذلك: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) [النور/63].

وليجعلوا هذه الآية نصب أعينهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [آل عمران/159]، ومن أعظم ما بين الله في كتابه أصول الحوار، وأسلوبه، ومنهجه، وصدق حبيبنا صلى الله عليه وسلم إذ قال: " قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هلك، من يعش منكم فيسرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ" [1]، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واستمسك بغرزهم إلى يوم الدين.


[1] حديث العرباض بن سارية رواه الإمام أحمد 4/ 126، وابن ماجة في سننه (43)، والحاكم في مستدركه (331)، وصححه جمع من أهل العلم.

http://www.almoslim.net/node/96078
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير