إنّ الشرع لم ينه عن موافقة الكفّار في الباطن فقط، بل إنّ ذلك من المعلوم بالدين من الضرورة، وإنما نهى عن موافقتهم ومشابهتهم في جميع شؤونهم، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)).
قال المناوي شارحا: " من تشبه بقوم: أي تزيا في ظاهره بزيهم وفي تعرفه بفعلهم وفي تخلقه بخلقهم وسار بسيرتهم وهديهم في ملبسهم وبعض أفعالهم أي وكأن التشبه بحق قد طابق فيه الظاهر الباطن ".
ومن التعاريف النافعة للتشبه ما أورده الشيخ الدكتور ناصر العقل حيث قال: " هو مماثلة الكافرين بشتى أصنافهم، في عقائدهم، أو عباداتهم، أو عاداتهم، أو في أنماط السلوك التي هي من خصائصهم ".
و النصوص من القرآن التي تنهى عن مشابهة الكفار كثيرة نذكر منها:
- قوله سبحانه وتعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ))، فمن أهم مقتضيات الصراط المستقيم البعد عن سبيل المشركين.
- قوله تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)
قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: " وأهواءهم: هو ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك، فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ".
وأما ما ورد من الأحاديث وفيه الترهيب من التشبه بهم، فما رواه أحمد عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)).
وهذا أشهر حديث في باب التشبه بالكفار، قال شيخ الإسلام في المصدر السابق: "وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) ".
وقد جاءت بعض الأحاديث بالأمر ببعض الأفعال أو النهي عن بعضها مع التعليل لذلك الأمر أو النهي بمخالفة أهل الكتاب منها:
1 - ما رواه أبو داود عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: ((اهْتَمَّ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ، لَهَا فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ - يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ: شَبُّورُ الْيَهُودِ - فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، وَقَالَ:" هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ " قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ فَقَالَ: " هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى")).
قال شيخ الإسلام: "وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى".
2 - عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ)) وهذا تصريح منه صلّى الله عليه وسلّم بالأمر بالمخالفة.
ومن أراد الاستزادة فعليه بكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية " اقتضاء الصراط المستقيم ".
فهذه النصوص وغيرها تدل على تحريم مشابهة الكفار في جميع خصائصهم، والعلة في ذلك أن المشابهة في الظاهر تفضي للمشابهة في الباطن، قال ابن تيمية رحمه الله: " إنّ المشاركة في الهدي الظّاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإنّ اللاّبس لثياب أهل العلم يجد من نفسه نوعَ انضمام إليهم، واللاّبس لثياب الجند المقاتلِة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلاّ أن يمنعه مانع ".
وقال: "المشابَهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابَهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتّدريج الخفيّ ".
وصدق رحمه الله، فإنّه لما حرَص بعض المنتسبين إلى الإسلام على التشبّه بالكفّار من اليهود والنصارى، في كلّ صغيرة وكبيرة وتركوا ما أوجب الله عليهم من البراءة منهم وكراهيتهم، وتخلّوا عن هذه الشّعيرة المهمّة من شعائر الإيمان، آلَ بهم الأمر إلى تصحيح أديان هؤلاء الكفار، بل والدّعوة إلى توحيدها مع دين الإسلام، وهو ما يعرف بوحدة الأديان، كلّ ذلك أثرٌ من آثار التشّبه بالكفّار والتدرّجِ في مضاهاتهم في كلّ صغيرة وكبيرة والله المستعان.
¥