[دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (الحلقة الثالثة)]
ـ[أبو موسى الأردني]ــــــــ[30 - 07 - 08, 09:09 ص]ـ
[دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (الحلقة الثالثة)]
· قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم مجبورون لأن من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الإيمان. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن كفرهم واقع بمشيئتهم وإرادتهم كقوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} , وكقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} , وكقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية, وكقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم} الآية, وكقوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُم} الآية.
والجواب: أن الختم والطبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم, كل ذلك عقاب من الله لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم, فعاقبهم الله بعدم التوفيق جزاء وفاقا. كما بينه تعالى بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وبقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} الآية وقوله: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} , إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} الآية. أفرد في هذه الآية الضمير في قوله استوقد وفي قوله ما حوله وجمع الضمير في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} , مع أن مرجع كل هذه الضمائر شيء واحد وهو لفظة الذي من قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي} , والجواب عن هذا أن لفظة الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها, وقد تقرر في علم الأصول أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم, فإذا حققت ذلك فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة الذي وجمعه باعتبار معناها, ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء أن الذي تأتي بمعنى الذين ومن أمثلة ذلك في القرآن هذه الآية الكريمة, فقوله كمثل الذي استوقد أي كمثل الذين استوقدوا بدليل قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} الآية. وقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أي كالذين ينفقون بدليل قوله: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} بناء على الصحيح من أن الذي فيها موصولة لا مصدرية ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:
في قائم منهم ولا في من قعد يا رب عبس لا تبارك في أحد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
وقول الشاعر وهو أشهب بن رميلة وأنشده سيبويه لإطلاق الذي وإرادة الذين:
هم القوم كل القوم يا أم خالد وأن الذي حانت بفلج دماؤهم
وزعم ابن الأنبارى أن لفظة الذي في بيت أشهب جمع الذ بالسكون وأن الذي في الآية مفرد أريد به الجمع وكلام سيبويه يرد عليه وقول هديل بن الفرخ العجلى:
غوايتهم غيي ورشدهم رشدي وبت أساقي القوم إخوتي الذي
وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه ولا يخفى ضعفه.