تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والنجوى والخلوة والجلوة، فإِنَّ ?للَّهَ لاَ يَخْفَى? عَلَيْهِ شَىْء فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء هُوَ ?لَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي ?لأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [آل عمران:5، 6].

عباد الله، إن الباريَ سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه خلق هذا الكون عُلويَّه وسفليّه ظاهره وباطنه، وأودعه من الموجودات الملائكة والإنسَ والجن، والحيوانَ والنبات والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو. كلُّ ذلك لأجل أمرٍ واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقةٍ كبرى لا حقيقة وراءَها، إنه لأجل أن تكون العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته وتحقِّق ألوهيتَه، وتُقرَّ بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه. ومن ثمَّ فإن تحقيق العبودية لا يمكن أن يبلغ مكانَه الصحيح إلا بتحقيق الطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، ليكون الدين لله والحكم لله والدعوة إلى الله. كلُّ ذلك يقوم به من جعلهم الله مستخلَفين في الأرض مستعمَلين فيها، ومثل هذا لا يتم لبني الإنسان من بين سائر المخلوقات إلا من خلال قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح على حدٍّ سواء. كما أنه لا يمكن إتمام العبودية على أكمل وجه إلا بتكميل مقام غاية الذل والانقياد مع غاية المحبة لله سبحانه وتعالى. فأكملُ الخلق عبودية لله هو أكملهم له ذلاً وانقيادًا وطاعةً، إذ هذه هي الذلة لله ولعزّته وقهره وربوبيته وإحسانه وإنعامه على ابن آدم.

وجماع العبودية ـ عباد الله ـ أنها هي الدين، فالدين عند الله الإسلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، وهذا هو سرّ خلق الله للخلق، وغايةُ إيجاده لهم على هذه البسيطة، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، أَيَحْسَبُ ?لإِنسَـ?نُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].

أيها المسلمون، يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا خَلَقَ ?للَّهُ مِن شَىْء [الأعراف:185]، ويقول عائبًا فئة من البشر غافلةً ساهية لم تأخذ العبرة والعظة مما تشاهده ليلاً ونهارًا في أنحاء هذا الكون المعمورة: وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:105، 106].

فيا سبحان الله، أفلا يرون الكواكب الزاهرات والأفلاك الدائرات والجميع بأمره مسخرات؟! وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات وبحارٍ زاخرات وأمواج متلاطمات وقفازٍ شاسعات، ثم هم يجعلون لله البنات، ويعبدون من دونه من هو كالعزى واللات، فسبحان الواحد الأحد خالق جميع المخلوقات. وثمَّ أمرٌ لذي اللبِّ المتأمّل يجعل العجب يأخذ من نفسه كلَّ مأخذ حينما يرى أمرَ هذا الكائن البشري وهو ينكص على عقبيه ويولِّي الدّبر، منصرفًا عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى والفاني عن الباقي، يتقلَّب بين الملذات والشهوات، ملتحفًا بأكنافها بعد أن أكرمه الله وكرّمه وحمله في البر والبحر وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبعد أن أسبغ عليه نعمه ظاهرةً وباطنة، وبعد أن خلقه وصوّره وشقَّ سمعه وبصره، وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ومع ذلك يستكبر الإنسان، ويكفر الإنسان، ويجهل الإنسان، ويقتر الإنسان، ويجادل الإنسان، فيقول الله عنه: إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، قُتِلَ ?لإِنسَـ?نُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17]، وَكَانَ ?لإنْسَـ?نُ قَتُورًا [الإسراء:100]، وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً [الكهف:54]، كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7]، بَلْ يُرِيدُ ?لإِنسَـ?نُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5]، إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير