وجاء في فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا ما يلي: ((ختام الصلاة جهاراً في المساجد بالاجتماع، ورفع الصوت، من البدع التي أحدثها الناس، فإذا التزموا فيها من الأذكار ما ورد في السنة، كانت من البدع الإضافية)) (106). وقال في موضع آخر: ((إنه ليس من السنة أن يجلس الناس بعد الصلاة بقراءة شيء من الأذكار، والأدعية المأثورة، ولا غير المأثورة برفع الصوت وهيئة الاجتماع .. وأن الاجتماع في ذلك والاشتراك فيه ورفع الصوت بدعة)) (107).
وجاء في الفتاوى الإسلامية للشيخ ابن عثيمين: ((الدعاء الجماعي بعد سلام الإمام بصوت واحد لا نعلم له أصلاً على مشروعيته)) (108).
وقال الشيخ صالح الفوزان: ((البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة، لأن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع شيء منها إلا بدليل. وما لم يدل عليه دليل فهو بدعة ... ثم ذكر بعض البدع. وقال: ومنها الذكر الجماعي بعد الصلاة لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفرداً)) (109).
فأصل الدعاء عقب الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة، وإنما يباح منه ما كان لعارض، قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: ((لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات: للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزاً .. وإذا لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام، ولا كونه سنة تقام في الجماعات، ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب)) (110).
وإنما كان هذا الدعاء بعد الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة، مع ثبوت مشروعية الدعاء مطلقاً، وورود بعض الأحاديث بمشروعية الدعاء بعد الصلوات خاصة، وذلك لما قارنه من هذه الهيئة الجماعية، ثم الالتزام بها في كل الصلوات حتى تصير شعيرة من شعائر الصلاة. فإن وقع أحياناً فيجوز إذا كان من غير تعمد مسبق، فقد روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه أجاز الدعاء للإخوان إذا اجتمعوا بدون تعمد مسبق، وبدون الإكثار من ذلك حتى لا يصير عادة تتكرر (111)، وقال شيخ الإسلام: ((الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة ولا اقترن به بدعة منكرة)) (112) وقال: ((أما إذا كان دائماً بعد كل صلاة فهو بدعة، لأنه لم ينقل ذلك عن النبي r والصحابة والسلف الصالح)) (113).
المبحث السادس: مفاسد الذكر الجماعي
سبق الإشارة إلى بعض مفاسد الذكر الجماعي باختصار ضمن المبحث الرابع. ونظراً لأهمية هذه المسألة فقد أفردتها بهذا المبحث المستقل. فأقول - مستعيناً بالله - إن من مفاسد الذكر الجماعي:
الأولى: مخالفة هدي النبي وأصحابه رضي الله عنهم، فإنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك. ولا شك أن ما خالف هدي النبي وهدي أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فهو بدعة ضلالة. ولو كان خيراً لفعله، ولتبعه في ذلك الصحابة الكرام، ولنقل ذلك عنهم ولا شك. فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على أنهم لم يفعلوه. وما لم يكن ديناً في زمانهم فليس بدين اليوم.
الثانية: الخروج عن السمت والوقار، فإن الذكر الجماعي قد يتسبب فيب التمايل، ثم الرقص، ونحو ذلك، وهذا لا يجوز بحال، بل هو منافٍ للوقار الواجب عند ذكر الله تعالى، وحال أهل الطرق الصوفية معروف في هذا الباب.
الثالثة: التشويش على المصلين، والتالين للقرآن، وذلك إذا كان الذكر الجماعي في المساجد. ولاشك أن المجيزين له يعدون المساجد أعظم الأماكن التي يتم الالتقاء فيها للذكر الجماعي.
الرابعة: أنه قد يحصل من الذاكرين تقطيع في الآيات، أو إخلال بها وبأحكام تلاوتها، أو بأذكار مما يجتمع عليها، كما لو أن أحدهم قد انقطع نَفَسُه ثم أراد إكمال الآية فوجد الجماعة قد سبقوه، فيضطر لترك ما فاته واللحاق بالجماعة فيما يقرأون. أو أن يكون بعض القارئين مخلاً بالأحكام فيضطر المجيد للأحكام إلى مجاراتهم حتى لا يحصل نشاز وتعارض، ونحو ذلك.
الخامسة: أن في الذكر الجماعي تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية جماعة وبصوت واحد. وهذا التشبه بأهل الكتاب مع ورود النهي الشديد عن موافقتهم في دينهم دليل واضح على عدم جواز الذكر الجماعي.
السادسة: أن فتح باب الذكر الجماعي قد يؤدي إلى أن تتبع كل طائفة شيخاً معيناً يجارونه فيما يذكر، وفيما يقول، ولو أدى ذلك إلى ظهور أذكار مبتدعة، ويزداد التباعد بين أرباب هذه الطرق يوماً بعد يوم؛ لأن السنة تجمع، والبدعة تفرق
السابعة: أن اعتياد الذكر الجماعي قد يؤدي ببعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجد من يشاركه، وذلك لاعتياده الذكر الجماعي دون غيره.
ولاشك أن للذكر الجماعي مفاسد أخرى، وفيما ذكرت كفاية،،،، ولله الحمد.
الخاتمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فمن خلال هذا البحث، وما ورد فيه، يتبين لنا أن الذكر الجماعي ليس له أصل في دين الله تعالى، إذ لم ينقل عن النبي ولا عن الصحابة الكرام أنهم كانوا يذكرون الله جماعة، ولم يفعله السلف الصالح رضي الله عنهم، بل أنكروا على من فعل ذلك، ولم تنتشر هذه البدعة إلا بقوة السلطان، وذلك على يد المأمون بن هارون الرشيد، لما أمر به ودعا إليه ثم اعتاده الناس، وشاع بينهم حتى أصبح عندهم كالفريضة.
وقد احتج أصحاب هذه البدعة بنصوص عامة لا تسعفهم صراحة عند الاستدلال بها. وقد استدلوا كذلك بمصالح - ادعوها - للذكر الجماعي، وقد سقنا - والحمد لله - الجواب عن حججهم، بل وذكرنا بعضاً من مفاسد هذه البدعة في مبحث مستقل خلال هذا البحث، وبينا بعضاً من أضرارها على صاحبها، وعلى غيره.
وأسأل الله أن أكون قد وفقت في إخراج هذا البحث، وما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمني، والله ورسوله منه براء، وأسأل الله القبول، والحمد لله رب العالمين.
¥