قال البيهقي: "إن كانت رواية الشافعي والقعنبي من هذين الوجهين محفوظة فيحتمل أن يكون مالك رواه على اللفظين جميعا والله اعلم".أهـ
وأما سالم فرواه عنه ابن شهاب بلفظ: «فاقدروا له» لم يختلف عليه فيها [أخرجه البخاري ومسلم].
وأما محمد بن زيد فرواه عنه ابنه عاصم بلفظ: «فأكملوا ثلاثين» أخرجها ابن خزيمة (2/ 202).
فإنما فذهب الجمهور إلى أن تأويله: «فأكملوا العدة ثلاثين»، بحمل المجمل على المفسر.
قال ابن رشد: "وهي طريقة لا خلاف فيها بين الأصوليين، فإنهم ليس عندهم بين المجمل، والمفسر تعارض أصلا، فمذهب الجمهور في هذا لائح، والله أعلم".أهـ
والمراد مما ذكرناه من تفصيل روايات حديث ابن عمر بيان أنها قاضية بالمعنى المراد من الحديث إذ أن جميع من ذكرها مفسرة بلفظة: «أكملوا ثلاثين» ثقات أثبات. فكون بعض الرواة الآخرين قَصُرَ بالرواية على اللفظ المجمل، أو أن نافعا أو ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يحدث به تارة مفسر وأخرى مجملا أو غير ذلك مما يعرض للرواية فهذا لا يطعن في الرواية المفسرة إذ لا تعارض كما هو مقرر. خاصة وأن بعض طرق رواية ابن عمر وردت بلفظ: «فاقدروا له ثلاثين يوما»، وإذ تقرر ذلك تبين أنه لا دليل يستمسك به من يقول بالحساب.
ويقول ابن عبد البر في حق الحساب: "هو مذهب تركه العلماء قديما وحديثا للأحاديث الثابتة عن النبي عليه السلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين».
ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه والله أعلم ولو صح ما وجب إتباعه عليه لشذوذه ولمخالفة الحجة له وقد تأول بعض فقهاء البصرة في معنى قوله: في الحديث:: «فاقدروا له» نحو ذلك والقول فيه واحد وقال ابن قتيبة في قوله:: «فاقدروا له» أي فقدروا السير والمنازل وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له وليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب" (التمهيد (7/ 156)).
الأمر الثالث:
قوله صلى عليه وسلم: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا ... » [رواه البخاري]، فهو ليس تعليل للحكم؛ وإنما هو إنشاء لحكم آخر، يقول القاضي عياض: "وصفه صلى الله عليه وسلم لهم بالأمية وأنهم لا يحسبون ولا يكتبون إذ كانوا لا يجهلون الثلاثين، ولا التسع والعشرين، ولم ينف عنهم معرفة مثل هذا الحساب، وإنما وصفهم بذلك طرحا للاعتداد بالمنازل وطرق الحساب".أهـ
ويقول الصنعاني: "لو كان كلام الحاسب مدركا شرعيا للصوم والإفطار لما أهمله الشارع بل أشار إلى خلافه بقوله: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب»، ثم قال: «الشهر هكذا» الحديث؛ فأشار بيده إلى الثلاثين والتسع وعشرين" (حاشية الصنعاني على العدة (3/ 328)).
هذا من جهة النظر الشرعي؛ وأما من جهة علم الفلك فيقول فؤاد محمد سعيد وهو فلكي سوري، وعضو الجمعية الفلكية البريطانية: "أن لحظة تمام غروب قرص الشمس (والتي يجب تعيينها بدقة لأجل مقابلتها مع لحظة ميلاد القمر لمعرفة أي منهما حصل قبل الآخر) لا يمكن تحديدها نظريا ـ أي بالحساب ـ إلا بخطأ في التقدير لا يقل عن بضع ثوان زمنية.
ويذكر أنه: "لو أريد اعتماد الرصد لتحديد وقت تمام غروب قرص الشمس بدقة أكبر بدلاً من اعتماد المعادلة النظرية التقريبية لاستلزم الأمر توافر جملة من الشروط يكاد يستحيل تحققها، ويؤكد أن حساب وقت خروج القمر من المحاق (ميلاد القمر) في علم الفلك السماوي ليس مطلق الدقة كما يظن عامة الناس، بل هو تقريبي. فللقمر حركات معقدة للغاية. ويذكر أن النتيجة المعطاة لموضع القمر في مختلف الأوقات تكون بدقة 0.1 (+ -) دقيقة قوسية، وهذا يقابل دقة أو تفاوتا في حساب موضع القمر تساوي 11 (+ -) ثانية زمنية. وأن اللحظة الحقيقية لخروج القمر من المحاق تبقى مجهولة، وتحديدها بدقة أكبر هو أمر خارج عن إمكانات العلم في الوقت الحاضر" (نقلا عن بحث نشر بمجلة العربي الكويتي).
ومع تداخل هذان الخطأين (لحظة غروب قرص الشمس، ولحظة خروج القمر من المحاق) ينتج عدم الدقة المطلقة والقداسة المحاطة بالحسابات الفلكية؛ وهكذا ترى أن ما هو علمي لا يتعارض مع الشرعي مطلقاً.
وفي الختام نود أن نشير إلى بعض الأمور في عجالة:
أولاها: القول بأن الرؤية ظنية حيث يمكن أن يدخل عليها الخطأ بصورة أو أخرى، نقول هذا ليس فيه أي نوع من الحرج فقد تعبدنا الله بالظنيات في كثير من الأمور كالشهادة وغيرها، ثم إن الدلالة التي يراد عن طريقها العمل بالحساب هي دلالة ظنية.
ثانيها: فمن جهة وقوع الخطأ في الرؤية فقد رفع الشرع نفسه الحرج فيه فقال صلى الله عليه وسلم: «فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون» [أخرجه الترمذي (697) من حديث أبي هريرة وإسناده حسن]. وله شاهد من حديث عائشة رواه الترمذي (802)، ورجح الدارقطني وقفه.
قال ابن عبد البر: "قد أجمعوا على أن الجماعة لو أخطأت الهلال في ذي الحجة فوقفت بعرفة في اليوم العاشر أن ذلك يجزئها فكذلك الفطر والأضحى والله أعلم".أهـ (التمهيد (7/ 159)).
ثالثها: أنه لا مانع من امتحان المخبرين برؤية الهلال لمعرفة مدى صدقهم من عدمه؛ كأن يسأل الشاهد عن زمن ومكان رؤيته للهلال، ومدى ارتفاعه عن الأفق، وغير ذلك من الأسئلة التي تبين صحة ما رآه هل هو الهلال أنه توهمه.
خاص بإذاعة طريق الإسلام
http://www.wathakker.com/show_article_dtls.aspx?survey=300&id=566
¥