ثم يمضي المتمردون على النصوص في خدمة أهوائهم وانحرافاتهم بتأويلها وتحريفها عن مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم فيها. فتنبغ القدرية الذين قالوا: إن الأمر أنف، أي لا دخل لمشيئة الله وإرادته فيه. ثم تلاهم الجبرية، فقالوا: إن العبد ليس له مشيئة. ثم جاءت المرجئة فقالوا: إن الإيمان مجرد التصديق، وليس لأعمال العبد أثر في إيمانه.
ثم ظهر من تكلّم في صفات الله تعالى فأنكرها وعطلها وهم الجهمية، ثم جاء من أقر بالأسماء وعطل الصفات وهم المعتزلة، ثم ظهرمن أقر بالأسماء وبعض الصفات وهم الكلابية ثم الأشاعرة والماتريدية.
وقل عن الصوفية وتأويلاتهم وتفسيرهم الإشاري لكتاب الله ما تقوله عن سائر المبتدعة وأهل الأهواء من زيغ وانحراف.
وهكذا يسير ركب المتمردين على النصوص في مناهج التأويل والتحريف والتعطيل، انتصاراً لأقوالهم، واتباعاً لأهوائهم، حتى يومنا هذا. ومن المناهج المعاصرة:
1 - منهج التيسير في الأحكام (أو مسايرة الواقع): وهؤلاء ينظرون إلى حال الناس وما صلوا إليه في زماننا هذا من إقبال على الدنيا، وانجذاب إلى الشهوات، وبعدٍ عن الالتزام بأحكام الدين، وسنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم. فبدلاً من أن يجتهدوا في الترغيب والترهيب، ودعوة الناس إلى الإذعان والتسليم لأحكام رب العالمين وسنة سيد المرسلين. جنحوا إلى موادعة الفساق، وأصغوا إلى أقوال المنافقين من العلمانيين وأهل الفساد، ثم التفتوا إلى النصوص الشرعية المحكمة، فأخذوا بعضاً وأعرضوا عن بعض، وأولوا بعضاً، وتحايلوا على بعض. وادعوا أن ذلك كله دعوة إلى الله. وتأليفاً لقلوب العباد. وأن دواعي العصر تبيح للناس ما هم فيه من بعد عن الدين وانغماس في الشهوات. وأنهم إذا لم ييسروا الدين على المسلمين حتى لا يتعارض شيء منه مع أهوائهم وشهواتهم، فإن الناس لن يقبلوا عليه، ولن يتمسكوا به.
- 4 -
وعلى هذا فإن استعصى حال الناس على هؤلاء الدعاة، فلن تستعصي عليهم النصوص الشرعية، وهم يملكون أدوات تمزيقها وتأويلها وتحريفها، فيصبحون بذلك ميسرين لا معسرين، فتجتمع قلوب أهل الأهواء، وأرباب الشهوات، وأصحاب المناهج المنحرفة، وجمهور المبتدعة عليهم، وهذه غاية الدعوة عندهم، وأعظم دليل على نجاحها وصلاحها وصحة منهجها.
من هذا المنطلق المنحرف انبرى علماء الفتوى الإعلاميون، يصوغون الفتاوى على حسب حال الناس، ويفصلونها كلاً على مقاسه وذوقه، وينشرونها على صفحات الجرائد، وتحت وهج الكاميرات، في مختلف القنوات. كل شيء جائز إن شاء الله، ومعظم الفواحش والمنكرات لا تخرج عن دائرة الكراهة التي لا يعاقب فاعلها. والمتشددون هداهم الله. هم الذين يحرجون على الناس، ويصرون على العمل بالنصوص على ظاهرها. فليس لهم فقه بالنصوص، ولا رحمة بالعباد الذين يريدون أن يتمتعوا في هذه الدنيا، ويتقلبوا في ملذاتها وشهواتها، فهم يؤذونهم ويزعجونهم بالتحريم والمنع، أو بالتكليف والأمر. ونحن في عصر غير عصر الصحابة، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم – كما يقول بعض أفّاكيهم – في عصرنا الحاضر لغيّر كثيراً من النصوص، وبدل كثيراً من الأحكام.
2 - منهج العصرنة والتنوير أو الحداثة أو (إعادة قراءة النص):
أصحاب هذا المنهج لم يكونوا يوماً من الأيام دعاة إلى الله، ولا ملتزمين بشرعه، فبعضهم من بقايا الشيوعية الروسية التي كان يمثلها الاتحاد السيوفيتي الذي تهدم أمام صولة المجاهدين في أفغانستان، وبعضهم من عملاء الليبرالية الغربية، والماسونية اليهودية، الذين لا يخفون خدمتهم لها، افتتانهم بفلسفتها.
إنهم فرقة من العملاء لأعداء الإسلام، مكلفون بهدمه، وتقويض أركانه، وتخريب شعائره وإزالة بنيانه ولكن من الداخل. هم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، دعاة على أبواب جهنم، يقودون من اتبعهم إليها، كما صحت بذلك نبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيهم وفي أشباههم.
¥