وفتح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سباقا لهذا الجود، فدلّنا على سبيل يمكنك من خلاله أن تصوم رمضانين في رمضان واحد، فقد روى التّرمذي وغيره عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)).
فتذكّروا إخوانا لنا في الإسلام .. تذكّروا الأرامل والأيتام .. تذكّروا أحشاء ظامئة .. وبطونا جائعة .. إنّ ما تشعر به من الجوع والعطش أيّاما، يشعر به هؤلاء أعواما ..
وتذكّروا أجسادا عارية .. تذكّروا أبا وأمّا لا يجدون ما يدخلون به السّرور على أطفالهم .. يكبّر للصّلاة ويأتيه طيف الحاجة .. هل من معين .. هل من مواسٍ للمعوِزين .. ويزداد ألمه، ويشتدّ سقمه إذا تذكّر أنّ من بخل عليه في رمضان، فإنّه لن ينظر إليه في غيره ..
وكان كثير من السّلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وداود الطّائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يُفطر إلاّ مع اليتامى والمساكين، وإذا علم أنّ أهله قد ردّوهم لم يفطر معهم تلك اللّيلة.
وكان من السّلف كالحسن وابن المبارك من يدعو المحتاجين فيطعمهم وهو صائم ويجلس يخدمهم ويروّحهم.
وقال أبو السوّار العدويّ: كان رجال من بني عديّ يصلّون في المسجد ما أفطر الواحد منهم وحده قط، فإن وجد من يأكل معه، وإلاّ أخرج طعامه إلى المسجد فيأكله مع النّاس.
ألا فلتتحرّك أيدي الجود والسّخاء .. بالإنفاق والعطاء .. فكم من ساق جرعة ماء لوجه ربّ الأرض والسّماء وقاه الله شرّ يوم اللّقاء .. كم من ساق جرعة ماء سقاء الله يوم الظّمأ شربة لا يظمأ بعدها أبدا .. ((إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12))) ..
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ.
هذا سقى كلبا طريدا، فكيف بمن أطعم عبدا أسلم لله توحيدا وتمجيدا؟ ..
الخطبة الثّانية:
الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلّ عليه وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع هداه واستنّ بسنّته وسار على منواله، أمّا بعد:
فمن جزيل الأعمال الّتي على المسلم أن يحرص عليها هذا الشّهر:
-القيام:
فقيام اللّيل من أعظم ما تقرّب به الصّالحون، وأشرف ما يبتغيه المؤمنون، وإنّ فضائله لا تحصى ولا تعدّ، ولا يمكن أن يحويها حدّ .. فيكفي:
1 - أنّه شرف المؤمن .. وكلّنا يبتغي الشّرف، غير أنّ أكثر النّاس ظنّوه بالمال والجاه، روى الحاكم وغيره بسند صحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: " جاء جبريل عليه السّلام إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:" يَا مُحَمَّدُ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيّ بِهِ، واعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ)).
وأعلى مقامات الشّرف أن يجعلك الله من عباده، فيقول: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64))) [الفرقان] .. فسمّاهم عباد الرّحمن، وكأنّ غيرهم ليسوا كذلك ..
وممّا زادني شرفا وتيها وكدت بأخمُصيّ أطأ الثريّا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبيّا
¥