تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما إذا كان سكراناً زائل العقل فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكون سُكْرُه وزوال عقله على وجهٍ مأذونٍ أو معذورٍ به شرعاً، مثل أن يشرب عصيراً فيَتبين أنه خمر، فمثل هذا يسمى بالسكران المعذور في سكره، فهذا يُعذر، ويُنَزَّل منزلة المجنون ولا يؤاخذ، وحُكِي الإجماع على هذا كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله على أن السكران المعذور تسقط عنه المؤاخذة في جملة المسائل.

كذلك أيضاً في حكم المعذور ما يقع في التخدير، فلو أنه وُضِع المخدر في شرابٍ وهو لا يدري؛ فإنه إذا شربه وتكلم بالطلاق وتلفظ به لم ينفذ الطلاق.

كذلك أيضاً المخدِّر الجراحي، مثل ما يقع في العمليات الجراحية، حيث يُوضع المخدِّر في العملية الجراحية فإذا جاء قبل الإفاقة يتكلم ويتلفظ فتلفظ بتطليق نسائه، أو بطلاق زوجته فإنه لا ينفُذ؛ لأن تخديره كان على وجهٍ معذورٍ فيه شرعاً.

وهذا نص عليه جماهير العلماء، كالإمام ابن قدامة والإمام النووي وغيرهم رحمةُ الله عليهم: أن السكران زائل العقل إذا كان زوال عقله بسبب يُعذر فيه شرعاً أنه لا ينفذ طلاقه.

الصورة الثانية: أن يكون سُكره وزوال عقله على وجهٍ لا يُعذر فيه شرعاً، وهذا مثل -والعياذ بالله- من يشرب الخمر عالماً بها معتدياً لحدود الله عز وجل.

فللعلماء في السكران إذا طلق حال سكره قولان: القول الأول: لا ينفُذ طلاقه ولو كان متعمداً للسكر، وهو مذهب الظاهرية وطائفةٍ من أهل الحديث ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

والقول الثاني: وهو مذهب الجمهور أن السكران المتعمِّد للسكر ينفذ عليه طلاقه.

واحتج أصحاب القول الأول -أن السكران الذي لا يُعذَر في سُكره لا ينفذ طلاقه- بدليل الكتاب والسنة.

أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أن السكران لا يعلم ما يقول، وإذا كان لا يعلم ما يقول كان كمن يهذي بما لا يعلم، فهو غير مطَلِّق حقيقة، وعليه قالوا: لا ينفُذ طلاقه.

واستدلوا بالسنة: ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أسقط المؤاخذة في قول السكران، وذلك ما جاء في الصحيحين من حديث حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما كانت الخمر حلالاً شربها في أول مقدمهم إلى المدينة، وكان علي رضي الله عنه قد أعد مهر فاطمة لكي يدخل بها، وكان له بعير شارِف، فأناخه بباب حمزة رضي الله عنه ثم ذهب، فشرب حمزة فثمِلَ في شربه، فغنته الجارية، فانتشى رضي الله عنه، فجَبّ سنام البعير، فجاء علي رضي الله عنه ورأى ما هاله، فذهب يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عليه الصلاة والسلام ووقف على عمّه حمزة فوبخه وقرعه، فرفع حمزة رأسه إليه وقال مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم إلا عبيدٌ لآبائي) ولما قال هذه الكلمة تنبه عليه الصلاة والسلام أنه سكران، ولم يكن يعلم أنه سكران، فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع عليه الصلاة والسلام القهقرى، ولم يؤاخذ حمزة بهذه الكلمة؛ لأن هذه الكلمة لو قالها رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم لكفر؛ لأن المقصود بها السخرية والحط من القدر، فلما قالها وهو في حال سكره لم يؤاخذه النبي عليه الصلاة والسلام بها.

ونص العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط المؤاخذة بالرِّدّة في حال السكر، والردة قول، ولم يؤاخذه مع أنه سكران، لكن ردوا على ذلك بأن حمزة كان معذوراً في سكره، حيث كان الخمر مُبَاحاً، ورُدّ على ذلك بأن المؤاخذة مرتبطة بالعقل والإدراك، وليست القضية قضية كونه مباحاً أو محرماً.

كذلك قالوا: إن الأصل يقتضي أن التكاليف منوطة بالعقل، والتكاليف من حيث المؤاخذة وعدمها تكون مرتبطة بالعقل، والسكران لا عقل له.

والظاهر أن السكران يمر في سكره بثلاث حالات، ينبغي فيها التفريق في الحكم على ما يبدر منه في كل حالة على حده، وهذه الحالات هي: الحالة الأولى: أن يكون في بداية الهزة والنشاط والنشوة.

والحالة الثانية: أن يكون في غاية السكر، وهي التي يسقط فيها كالمجنون، لا يعرف السماء من الأرض، ولا يفرق الأشياء ولا يميزها تماماً كالمجنون.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير