تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن أوضح الأدلة على غلبة الهوى على الناس أنهم – كما تراهم – على أديان مختلفة، و مقالات متباينة، و مذاهب متفرقة، و آراء متدافعة ثم تراهم كما قال الله تبارك و تعالى: [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْفَرِحُونَ].

فلا تجد من ينشأ على شيء من ذلك و يثبت عليه يرجع عنه إلا القليل، و هؤلاء القليل يكثر أن يكون أول ما بعثهم على الخروج عما كانوا عليه أغراض دنيوية.

ومن جهات الهوى أن يتعلق الاعتقاد بعذاب الآخرة فتجد الإنسان يهوى أن لا يكون بعث لئلا يؤخذ بذنوبه، فإن علم أنه لا بد من البعث هوي أن لا يكون هناك عذاب، فإن علم أنه لا بد من العذاب هوي أن لا يكون على مثله عذاب كما هو قول المرجئة، فإن علم أن العصاة معذبون هوي التوسع في الشفاعة – و هكذا.

ومن الجهات أنه لا يشق عليه عمل كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هوي عدم وجوبه، و إذا ابتلي بشيء يشق عليه أن يتركه كشرب المسكر هوي عدم حرمته.

وكما يهوى ما يخفف عليه فكذلك يهوى ما يخفف على من يميل إليه، و ما يشتد على من يكرهه، فتجد القاضي و المفتي هذه حالهما.

و من المنتسبين إلى العلم من يهوى ما يعجب الأغنياء و أهل الدنيا، أوما يعجبه العامة ليكون له جاه عندهم و تقبل عليه الدنيا، فما ظهرت بدعة، و هويهاالرؤساء و الأغنياء و أتباعهم إلا هويها و إنتصر لها جمع من المنتسبين إلى العلم،و لعل كثيراً ممن يخالفها إنما الباعث لهم عن مخالفتها هوى آخر وافق الحق، فأما منلا يكون له هوى إلا إتباع الحق فقليل، و لا سيما في الأزمنة المتأخرة، و هؤلاء القليل يقتصرون على أضعف الإيمان، و هو الإنكار بقلوبهم و المسارة به فيما بينهم،إلا من شاء الله.

فإن قيل: فلماذا لم يجعل الله عز و جل جميع حجج الحق مكشوفة قاهرة لا تشتبه على أحد، فلا يبقى إلا مطيع يعلم هو و غيره أنه مطيع،و إلا عاص يعلم هو و غيره أنه عاص، و لا يتأتى له إنكار و لا اعتذار؟ ([1]).

قلت: لو كان كذلك لكان الناس مجبورين على إعتقاد الحق فلا يستحقون عليه حمداً و لا كمالاً و لا ثواباً، و لكانوا مكرهين على الاعتراف كمن كان في مكان مظلم فزعم أن ذاك الوقت ليل وراهن على ذلك ففتحت الأبواب فإذا الشمس في كبد السماء، و لكانوا قريباً من المكرهين على الطاعة من عمل و كف،لفوات كثير من الشبهات التي يتعلل بها من يضعف حبه للحق فيغالط بها الناس و نفسهأيضاً.

فإن قيل: فإن المؤمن إذا كان موقناً كانت الحجة في معنى المكشوفة عنده أفلا يمون مثاباً على إيمانه و اعترافه و طاعته؟

قلت: ليس هذا من ذاك في شيء، أما الاعتقاد فمن وجهين:

الأول: أن الحجة لم تكن كلها مكشوفة للمؤمن منأول الأمر، و إنما بلغ تلك الدرجة بنظره و تدبره و رغبته في الحق و مخالفته الهوى، و بهذا ثبت صدق حبه للحق و ايثاره على الهوى فيستمر له حكم ذلك بعد انكشاف الحجة، و هو بمنزلة الظمآن الذي يطلب الماء حتى ظفر به، فأراد أن يشرب فقال له مصلط: ان لم تشرب ضربتك أو سجنتك فمثل هذا لا يقال إذا شرب إنه إنما شرب مكرهاً.

الوجه الثاني: أن وضوح الحجة للمؤمن لا يستمر بدون جهاد، لأن الشبهات لا تزال تحوم حول المؤمن لتحجب عنه الحجة و تشككه فيها، والشهوات تساعدها فثباته على الإيمان برهان على دوام صدق محبته للحق، و ايثاره على الهوى.

وأما الاعتراف فالأمر فبه واضح، فإن وضوح الحجة عند المؤمن لا يكون مكشوفاً لغيره، فليس في معنى المكره على الاعتراف، بل أنه إذاذكرنا أن الحجة واضحة عنده وجد كثيراً من الناس يكذبونه أو يرتابون في دعواه.

وهكذا حاله في الطاعة من عمل و كف، فأن انكشاف الحجة في الإيمان الاعتقادي لا يستلزم إنكشاف الحجج الأخرى التي تترتب عليهاالطاعات، وهب أن هذه انكشفت له أيضاً، فقد بقيت شبهات أخرى، لولا صدق حبه للحق وإيثاره على الهوى لأمكنه التشبث بها، كأن يقول:

ينبغي أن أروح عن نفسي فإن لي حسنات كثيرة لعلها تغمر هذا التقصير، أرى لعلها تنالني من شفاعة الشافعين، أو لعل الله يغفر لي، أو أتمتع الآن ثم أتوب.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير