تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما نحمد الله عليه، أن دِيننا متينٌ، وأنه لا تعارض بينه وبين العقل أو العلم السليمين، بل ثبت أن ما يأتيان به إنما هو في حكم التابع للدين، الجاري مجراه؛ وإنما الخلل ينبع من أفكارٍ وافدةٍ نشأتْ في بيئة يشيع فيها الإلحاد، فتغلغلت في عقول هشة، فوجب على العلماء وحراس العقيدة أن يبينوه للناس.

قال ابن تيمية: "ما عُلم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبتة؛ بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملتُ ذلك في عامة ما تَنازع الناسُ فيه، فوجدت ما خالف النصوصَ الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً يُعلَم بالعقل بطلانها؛ بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع".

وقال: "والقول كلما كان أفسد في الشرع، كان أفسد في العقل، فإن الحق لا يتناقض".

يأيها العلماء الكرام، إن القنوات الفضائية المخالفة، والمواقع المعادية عقديًّا تشن حربًا لا هوادة فيها على الدين، وتواصل بثها للشبهات حول آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، وحول التفاسير، وتنشر ما علق بالتراث من الغث والضعيف، والموضوع والخرافي، زاعمةً أن هذا هو ديننا، وموردةً الشبهاتِ بوسائل حديثة، وتقنيات خطيرة.

والشباب كما هو معلوم، وهم الأكثرية الغالبة في مجتمعنا اليوم، وهم في الوقت نفسه الشريحة التي تدمن مطالعة الإنترنت (تشير الدراسات أن 90 % من متصفحي الإنترنت من الشباب) ومشاهدة القنوات - صاروا بهذا ضحية للشبهات السياسية والدينية. ولاشك أن اهتزاز هذين الأمرين في الشريحة الشبابية، يعني تغيرات جذرية في الخارطة الفكرية بشقيها السياسي والديني لا قدر الله.

هذا هو الواقع، وهذه هي ضريبة التقنية، التي لا يمكن مواجهتها بالمنع، أو سياسة التكتم، أو وضع الرأس في التراب. لا بد من مواجهة الفكر بمثله؛ لمقاومته وصده، ولا بد من الاستفادة من التقنية؛ لكبح شر الجانب السلبي فيها أو تخفيفه.

إن سياسة التكتم أو المنع أو الحجب قلَّت فاعليتُها، وضعفت جدواها، وعُزلة العلماء وصدودهم لم يعد أمرًا مقبولاً، وتنازعهم فيما بينهم أصبح اليوم أكثر قبحًا ودمامة. لقد أخذ الله على العلماء العهد والميثاق بالبيان والتوضيح للناس، توضيح أمر الدين الصحيح، والذب عنه وحراسته، ولا بد لهم من مواكبة الأحداث ومتابعة المستحدثات من الشبهات والرد عليها.

ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما قام أحد الحائرين - من أمثال بعض شبابنا - بإرسال مجموعة من الأبيات الشعرية، يشكك بها في القدر، إلى مجلس شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها قوله:

إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي

دَعَانِي وَسَدَّ البَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي

قَضَى بِضَلاَلِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالقَضَا فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي

فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حَيْرَتِي

فما كان من شيخ الإسلام إلا أن نظم في ذلك المجلس قصيدةً يرد فيها بإحكامٍ على قصيدته، وهي قصيدة طويلة فصَّل فيها الشيخ الردَّ، وأبان الأمر، ومنها:

سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ مُخَاصِمِ رَبِّ العَرْشِ بَارِي البَرِيَّةِ

وَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ المَلأَ العُلاَ قَدِيمًا بِهِ إبْلِيسُ أَصْلُ البَلِيَّةِ

وَمَنْ يَكُ خَصْمًا لِلْمُهَيْمِنِ يَرْجِعَنْ عَلَى أُمِّ رَأْسٍ هَاوِيًا فِي الحَفِيرَةِ

وَأَصْلُ ضَلاَلِ الخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ هُوَ الخَوْضُ فِي فِعْلِ الإِلَهِ بِعِلَّةِ

فَقَوْلُكَ لِمَ قَدْ شَاءَ مِثْلُ سُؤَالِ مَنْ يَقُولُ فَلِمَ قَدْ كَانَ فِي الأَزَلِيَّةِ

وَذَاكَ سُؤَالٌ يُبْطِلُ الْعَقْلُ وَجْهَهُ وَتَحْرِيمُهُ قَدْ جَاءَ فِي كُلِّ شِرْعَةِ

وبغض النظر عن فاعلية الجواب من عدمه، إلا أن موجب الإيراد لهذا المثال هو تبيان سرعة استجابة العالم الرباني لمقتضيات الحال، أفلا يجب علينا أن نتحلى بمثل تلك المبادرة السريعة، والاستجابة الفورية للمستجدات الحديثة، كما كان يتحلى بها العلماء الكبار؛ أمثال ابن تيمية وغيره؟

ثانيًا: دور الدولة في حراسة العقيدة:

دور الدولة مهم جدًّا في صيانة الفكر، وحراسة العقيدة، ورعاية الملة، ومراقبة الأفكار الوافدة، وأي دولة مهما كانت - ومنها الدول الغربية المتقدمة - فإنها تقوم على أسسٍ فكرية وعقائدية، قبل أن تقوم على أسسٍ سياسية، والفكر والعقيدة هي البنية التحتية، والقواعد الأساسية للاستقرار والثبات، ولا تخلو دولة من قيمٍ فكريةٍ ترعاها وتحرسها، وتُقاس قوتها بقوة تلك الأرضية الفكرية.

ومتى ما اختُرق النطاق الفكري لأي دولة، أو زُعزع أمنُها الفكري، أو فكِّكت منظوماتها القيمية، فإنها تفقد (قوتها الناعمة)، التي هي في الحقيقة مبدأ تماسكها وترابطها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير