تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

نحن في عصر تقدمت فيه التقنية بشكل هائل، وأصبحت الأفكار تشكل خطورة فائقة في التأثير والانتقال، حتى قيل: إن الحرب الحقيقية في هذا العصر هي حرب معلوماتية فكرية بالدرجة الأولى، فبواسطة الأفكار والمعلومات يمكن تدمير أقوى النظم السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وتفكيك أشد القيم تماسكًا.

وتكمن خطورة حرب الأفكار في أنها تهدف إلى إخضاع الإنسان من خلال السيطرة على تفكيره، والوصول به إلى النتائج التي يريدها الخصم، دون الحاجة إلى استخدام القوة، وإنما من خلال بناء إدراكات وإيحاءات لديه توصله إلى مرحلة التسليم لإرادة الآخر، والقبول بها وكأنها الحل الأمثل.

ومن خلال التجربة نعلم يقينًا أن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، وحرب المعلومات لا تواجه إلا بالمثل، وعلى نفس المستوى، وبنفس الأساليب والأنساق.

إن من يأكل الطعام الفاسد أو المسمَّم فإنه سوف يموت أو يتسمم بما أكل، وإذا كان هذا هو شأن الطعام الفاسد المسمم، فإن شأن الأفكار المسممة والفاسدة على العقول أعظم وأخطر.

والأفكار - مهما اعتقدنا أنها بسيطة أو ساذجة، وأننا في بلد التوحيد - إذا تُركَت دون نقد أو مواجهة، قد تكتسب قوة هائلة، يصعب بعد ذلك مواجهتها.

لقد أدرك الغرب قَبلنا خطورةَ وتأثير الأفكار، فسُلطانُها غير محدود بمكان أو زمان أو أشخاص، ولذلك قال المفكر الألماني "هاينه" محذرًا من مغبة الاستخفاف بسيادة الأفكار وتأثيرها: "إن الأفكار الفلسفية التي يطرحها أستاذ من مكتبه الهادئ قادرة على إبادة حضارة بكاملها"!

لقد كتب "روبرت رايلي" - مدير إذاعة صوت أمريكا، والذي ظهر لأول مرة في صحيفة "واشنطن تايمز" بتاريخ 28/ 1 / 2002م - مقالاً بعنوان: "كسب حرب الأفكار" ومما جاء في ذلك المقال، قولُه: "الطبيعة الحقيقية للصراع، صراع المشروعية الفكريّة في قلوب وعقول الناس، وليس القوة العسكرية. إن الحروب تخاض ويتم فيها تحقيق النصر أو الهزيمة في عقول الناس، قبل وقت طويل من بلوغها نهايتها في ميدان قتال بعيد".

وهذه حقيقة يثبتها الواقع، فكم من هزيمة عسكرية كانت نتيجة حتمية للهزيمة الفكرية والنفسية - الاتحاد السوفيَّتي مثلاً - وذلك من خلال ما يبثه الخصم من أفكارٍ ومعلومات مضللة، ينشط بها ضمن الصفوف الداخلية لأي مجتمع؛ من أجل تفكيكه، وتحطيمه معنويًّا ونفسيًّا.

إن الغرب مع الانفتاح الذي يعيشه، إلا أن كبار المفكرين فيه يُوصون بإلحاح على مراقبة الأفكار الوافدة، ونقدها وتمحيصها، قبل أن تتمكن وتُشكل خطرًا على المجتمع، ومن ذلك تفتيشهم وتقاريرهم التي يرفعونها حول الكتب المتواجدة على رفوف المكتبات في المراكز الإسلامية في الغرب، وشكواهم حول مناهج المدارس الإسلامية هناك؛ بل وقرارهم الأخير - والصادر منذ أيام في أمريكا - بحق تفتيش رجال الأمن والجمارك للحواسب الآلية الشخصية للقادمين إليها، ومصادرة ما بداخلها بعد أن عجزوا عن معرفة ما بداخل عقول هؤلاء الوافدين الزائرين، وهذا يطرح تساؤلاً مشروعًا عن مدى عودة القوى المتقدمة لممارسة المكارثية مرة أخرى، باسم حرب الأفكار، وحماية القيم والمبادئ الفكرية!!

يقول الباحث الغربي "إيزايا برلين" محذرًا من ترك الأفكار المخالفة دون تصدٍّ لها: "إن إهمال الأفكار من قِبَل الذين ينبغي أن يعتنوا بها - أي من قِبَل مَن تدربوا على تبني نظرة ناقدة للأفكار عمومًا - قد يؤدي أحيانًا إلى اكتسابها قوة كاسحة، لا يمكن مقاومتها أو كبحها، تفرض على أعداد هائلة من البشر".

وهذه حقيقة يشهد لها الواقع اليوم، سواء تجاهلنا هذا الأمر، أو كابَرْنا في قبوله، وما الثمار المرة التي نراها على المستوى الأخلاقي والفكري للجيل الحديث إلا خيرُ شاهد على خطورة تلك الأفكار وقوَّتها، مع غفلتنا عن نقدها واحتواء الشباب.

إنني أعتقد أننا في هذا العصر معرَّضون لمواجهة المرحلة الثالثة من "طوفان الأفكار الوافدة"، حيث كان "الطوفان الأول" في بداية عصر الترجمة في العصر العباسي، حينما تُرجمت الكتب اليونانية، فدخلت الفلسفات المختلفة إلى المجتمعات الإسلامية، فأفسدت كثيرًا من العقول بقصفها بوابلٍ من المحدثات والشبهات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير