لقد شغلوا الأمةَ عقودًا بهذه الأفكار والفلسفات الوافدة، وكان لها ولهم ضحايا من الشباب، فانتشرت الفلسفات الوجودية والإلحادية، والأطروحات الثورية، وانتشرت الثورات اليسارية في أرجاء الوطن العربي، لقد بدأت الأمور بفكرة، وانتهت بثورات عديدة!
يقول العالم المعروف "مصطفى محمود" في كتابه الشهير "رحلتي من الشك إلى الإيمان": "جئتُ في زمن تعقَّد فيه كل شيء، وضعف صوت الفطرة، حتى صار همسًا، وارتفع صوت العقل، حتى صار لجاجة وغرورًا واعتدادًا، وكانت الصيحة التي غمرت العالم هي: العلم، العلم ولا شيء غير العلم، وحول أبطال الغرب وعبقرياته كنا ننسج أحلامنا ومُثلنا العليا، وكان الشرق العربي هو التخلف والضعف، والتخاذل والانهيار، وكان طبيعيًّا أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق، وهو السبيل إلى القوة والخلاص".
ثم لما اندحرت الدول الاستعمارية، وسقطت دولة الشيوعية، وانهارت أكثر تلك الأفكار الوافدة، وخَبَتِ الثوراتُ البائسة، وأذن الله للصحوة الدينية المباركة، جُدد للأمة أمر هذا الدين، بعد اندراس كثيرٍ من معالمه، وأصبح الانتماء للقومية أو البعثية أو الشيوعية مسبةً وعارًا وشنارًا.
ثم جاء بعده "الطوفان الثالث"، حيث شاء الله أن تتنازع الصحوة، ويتعارك العلماء، ويتشاتم الدعاة، وتغيب القدوات - بل أصبح البعض قدوة سيئة - مع محاصرة عالمية للدعوة والدعاة؛ بسبب ظهور الجماعات المتطرفة، التي أساءت للإسلام، وأضرت بالمجتمع، فتسلطت الشبهات على الناس في زمن التقنية الحديثة، وانشغال الدعاة بصراعاتهم الخاصة، وسبابهم المشين، ثم تزامن ذلك مع ذلة عامة أحاطت بالأمة، وضعف وتخلف على الأصعدة كافة، فأعقب ذلك قلقٌ عام، وتغيرٌ واضح في أفكار وسلوك الجيل الجديد، الذي تمرد على كل شيء تقليدي، هكذا يسمونه.
وقد كان للقنوات الفضائية ومنتديات الإنترنت الدور الرئيس في إفساد عقول الشباب، ودعوتهم للتمرد على الدين وأهله، وقد وجدوا آذانًا مصغية من هؤلاء المراهقين، في وقتٍ صد فيه كثير من العلماء وانشغلوا عن واجباتهم، وزاد الطينَ بِلة عدمُ وجود المحاسب والرقيب!
إن خطورة هذه المرحلة تتمثل في سرعة انتقال الفكرة، وسرعة انتشارها وتأثيرها، إن خطورة الفكرة تتمثل في أنها هي التي تصنع الفعل!
إن الجيل الجديد يئن تحت وطأة الغزو الفكري الجديد، ويُطحن الآن تحت طاحونة "حرب الأفكار"، وإن جماعات عديدة مشبوهة قد نشطت في الارتباط بشبابنا عبر عمليات اتصال واسعة، عمليات يتفاعل بمقتضاها متلقي الرسالة الفكرية، بمقتضى ما يريده المرسِل، وفي هذا التفاعل يتم نقل الأفكار والمعلومات الموجهة بقصد ممارسة أكبر قدر من التأثير على المُرسَل إليه؛ من أجل تغيير أفكاره.
ومن خلال تجربتي الشخصية وجدت أن كثيرًا من الأسماء الوهمية والمستعارة، التي تكتب في منتديات وساحات الحوار ضد ديننا أو بلادنا، إنما هي جهات تابعة لجهات ومؤسسات استخباراتية، ومنظمات وجماعات معروفة، وقد كان لها - وللأسف - قدرة هائلة في تغيير أفكار كثير من القراء، وتسريب معلومات موجهة من أجل أهداف خبيثة تمس الدين والوطن.
ولقد وجدتُ نشاطًا محمومًا من مؤسسات دينية دولية - مخالفة - تتظاهر بالإلحاد، وتنشر الكتب الإلحادية وتبثها في المنتديات باسم مسلمين، تلبيسًا على الشباب، ودعوة لهم إلى التمرد والعصيان، ومن الأمثلة على ذلك:
مؤلف كتاب "قسٌّ ونبيٌّ" المسمى "أبو موسى الحريري"، ليس إلا راهبًا لبنانيًّا من الرهبنة اللبنانية البلدية المارونيَّة، ويقيم في منطقة كسروان، وهذا ما صرح به صاحبه "نبيل فياض" وما خفي أعظم.
وكذلك تسريب مؤلفات تحارب الإسلام، تحمل أسماء غربية؛ لإعطائها صبغة العلمية والموضوعية؛ ككتاب "قراءة سريانية - آرامية للقرآن"، الذي زعم أن اسمه "كرستوف لكسنبرغ"، وهو في الحقيقة ليس إلا كاتبًا سوريًّا، مجهول الدين والمذهب، من شمال شرق سوريا، يقيم في ألمانيا.
لقد سجل التاريخ الإسلامي أسماء رجال عظماء، واجهوا بالعلم والإيمان الطوفان الأول والطوفان الثاني، وسخَّرهم الله للوقوف في وجه تلك الفتن والتصدي لها، وحماية وحراسة العقول من الشبهات والشكوك.
ونحن في أمسِّ الحاجة في هذا العصر إلى رجال عظماء يواجهون بالعلم والإيمان والفكر السليم الطوفانَ الثالث، الذي بدأت تتشكل سحابته السوداء في الأفق، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة جدًّا لا قدر الله؛ لأن الطوفان الثالث يختلف كثيرًا عن السابقَيْنِ، كمًّا ونوعًا وتأثيرًا، ويختلف في أنه يُركز تركيزًا خطيرًا على قلب ومنبع ومصدر الإسلام، بلاد الحرمين الشريفين وأهلها، نسأل الله أن يحميها وجميع بلاد المسلمين.
ومع تقديري لجهود الدولة المبذولة - حفظها الله - في مواجهتها، التي لا هوادة فيها، لمواجهة أفكار الفئة الضالة، إلا أنني أحسب أن الغالبية الصامتة من أفراد المجتمع تأمل وترغب في توسيع هذه المواجهة، لتشمل الطوفان القادم، وأزعم أن الوقت قد آن لإدراج هذه المواجهة ضمن الخطط الإستراتيجية لأصحاب القرار؛ حتى لا يأتي يوم نعض فيه على أصابع الندم، ونتأمل عندئذٍ - وبكل أسى - الآيةَ الكريمة: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر: 44]، فهل يستجيب القادة، والعلماء والدعاة وأهل الفكر، لحماية عقول شبابهم، وقوتهم الناعمة، وأمنهم الفكري؟
قال "فرانك أنلو" في كتابه "القيادة والتغيير": "راقب أفكارك جيدًا، فإنها تصبح كلمات، راقب كلماتك فإنها تصبح أفعالاً"، وأقول: ارصدوا الأفكار الوافدة والغريبة، فإنها ستصبح كلمات تتحول إلى أفعال، قد تدمر كيان المجتمع ونظامه السياسي والاجتماعي القائم. اللهم إني قد بلغتُ، اللهم فاشهد.
¥