[رسالة "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد"]
ـ[أبومحمد والبراء]ــــــــ[30 - 09 - 08, 03:19 م]ـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد سيد ولد عدنان وعلى ءاله وأصحابه وبعد،
فهذه رسالة " لفتة الكبد إلى نصيحة الولد"، كتبها الشيخ الإمام أبو الفرج ابن الجوزي لولده يحثه فيها على طلب العلم وامتثال أوامر الله والانتهاء عن نواهيه. لم أستطع جعلها في مرفق فقمت بنسخها أسال الله أن بنفع بها ..
قال ابن الجوزي رحمه الله
الحمد لله الذي أنشأ الأب الأكبر من تراب، وأخرج ذريته من الترائب والأصلاب، وعضّد العشائرَ بالقرابة والأنساب، وأنعم علينا بالعلم وعرفان الصواب، أحسنَ التربيةَ في الصغر وحفِظ في الشباب، ورزقنا ذريةً نرجو بهم وفورَ الثواب.
(رب اجعلني مقيمَ الصلوة ومن ذريتي ربَنا وتقبل دعاء. ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) [سورة ابراهيم / 40 ـ 41]
أما بعد
فإني لما عرفتُ شرفَ النكاح وفضلَ الأولاد، ختمتُ ختمةً وسألتُ الله عز وجل أن يرزقني عشرة أولاد، فرزقني إياهم فكانوا خمسةً ذكورًا وخمسةً إناثًا، فمات من الإناث اثنتان ومن الذكور أربعة، ولم يبق لي من الذكور سوى ولدي أبي القاسم، فسألتُ اللهَ تعالى أن يجعل فيه الخلف الصالح وأن يبلّغني فيه المنى والمناجح.
ثم رأيتُ منه نوعَ توانٍ عن الجِد في طلب العلم، فكتبتُ إليه هذه الرسالة أحثه بها على طلب العلم وأحركه على سلوك طريقي في كسب العلم، وأدله على الالتجاء إلى الموفق سبحانه، مع علمي بأنه لا خاذل لمن وفّق ولا مرشدَ لمن أضلّ، لكنْ قد قال تعالى: (وتواصَوا بالحق تواصوا بالصبر) [سورة العصر / 3]، وقال تعالى: (فذكِّرْ إن نفعتِ الذكرى) [سورة الأعلى / 9]
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل في فضل العقل ومسؤولية التكليف والحث على طلب الفضائل
اعلم يا بني وفقك الله أنه لم يميَّزِ الآدميُ بالعقلِ إلا ليعمل بمقتضاه، فاستحضر عقلك وأعمِلْ فِكرَك، واخلُ بنفسك، تعلمْ بالدليل أنك مخلوق مكلف وأن عليك فرائض أنت مطالب بها، وأن الملكين عليهما السلام يحصيان ألفاظك ونظراتك، وأن أنفاسَ الحي خطوات إلى أجله، ومقدارَ اللبث في الدنيا قليل، والحبسَ في القبور طويل، والعذابَ على موافقة الهوى وبيل، فأين لذة أمس؟ قد رحلَتْ وأبقَت ندمًا، وأين شهوة النفس؟ نكّسَت رأسًا وأزلّت قدمًا.
وما سعِد مَن سعِد إلا بمخالفة هواه، ولا شقِي مَن شقي إلا بإيثار دنياه، فاعتبر بمن مضى من الملوك والزهاد، أين لذةُ هؤلاء وأين تعبُ أولئك؟ بقي الثواب الجزيل والذكرُ الجميلُ للصالحين، والمقالةُ القبيحة والعقاب الوبيل للعاصين، وكأنه ما شبع مَن شبِع، ولا جاع مَن جاع.
والكسلُ عن الفضائل بئس الرفيق، وحبُ الراحة يورث مِن الندم ما يربو على كل لذة، فانتبه وأتعِبْ نفسَك، واعلم أن أداء الفرائض واجتنابَ المحارم لازم، فمتى تعدّى الإنسانُ فالنار النار.
ثم اعلم أن طلبَ الفضائل نهايةُ مرادِ المجتهدين، ثم الفضائلُ تتفاوت، فمن الناس مَن يرى الفضائلَ الزهدَ في الدنيا، ومنهم مَن يراها التشاغلَ بالتعبد، وعلى الحقيقة فليست الفضائلُ الكاملةُ إلا الجمعُ بين العلم والعمل، فإذا حُصِّلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى، وحرّكاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه، فتلك الغاية القصوى، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وليس كلُ مريدٍ مرادًا، ولا كلُ طالبٍ واجدًا، ولكن على العبد الاجتهاد، وكلٌ ميسَّرٌ لما خُلق له، والله المستعان.
فصل في أسس المعرفة وأركانها
وأول ما ينبغي النظر فيه معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلومٌ أن من رأى السماء مرفوعة والأرضَ موضوعةًٌ، وشاهدَ الأبنية المحكمة، خصوصًا جسدَ نفسِه، علِمَ أن لا بد حينئذ للصَنعة مِن صانعٍ، وللمبني من بانٍ.
ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وأكبرَ الدلائل القرءانَ الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله.
فإذا ثبت عنده وجودُ الخالق وصدقُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وجب تسليمُ عِنانِه إلى الشرع، فمتى لم يفعل دل على خللٍ في اعتقاده.
¥