ازداد أرباب المال ثراء وكسروا قلوب الفقراء , وتعاملوا بما يشاءون , وجعلوا العقد شريعة المتعاقدين – تحت ضغط الحاجة والفقر- وبنو قلاع المال على جماجم الشعوب المسكينة.
لم يكن هناك شيء اسمه حق في المال واجب للفقراء والمساكين كما في دعوة الأنبياء حيث دعا الأنبياء للزكاة وكانت واجبة للفقراء , ولم يكن هناك منع للربا كما في دعوة الأنبياء حيث لا يتسلط القوي على الضعيف , ولم يكن هناك رحمة بالفقير والمعوز كما دعا إليها الأنبياء حيث لا يكون الاستغلال على حساب الحاجة , وحيث تنزع الرحمة من قلوب الناس , وليس هناك تجارة محرمة –إلا ما قرره هؤلاء التجار-وهكذا تحول الناس إلى مجتمع جشع لا همّ له إلا أن يسكب المال ثم يموت بعدها ليرث المال من بعده كلبه أو حصانه!! وهي عقلية العالم المتمدن اليوم , الذي يرعاه فلاسفة الحرية والتقدم ونبذ الدين.
لم يوفق كثيراً آدم سميث عندما ألف كتابه (ثروة الأمم عام 1776م) ونادى بمقولته الشهيرة (دعه يعمل) , وكان يطالب برفع الحظر عن التجارة بدون أي رقيب أو حسيب ومنها انطلق الرأسماليون , نحو الرأسمالية وبدأت مسلسلات نهب الثروات و وتسلط القوي على الضعيف وغابت القيم وحل محلها الأخلاق التجارية , وتحول الإنسان العامل في الدول الرأسمالية لمجرد آلة.
أصبحت الرأسمالية أنموذجاً صارخاً لسرقة الطعام من فم الفقير بحجة الحرية , وأصبح نشيدها (القانون لا يحمي المغفلين) , وهلك مئات الألآف من البشر تحت المناجم , وبين دخان المصانع , وفي أروقة البنوك تحت طائلة الديون الربوية , وهكذا حصل أبشع تفاوت طبقي بين فئات المجتمع , وضعفت جداً الطبقات الوسطى فإما غني أو فقير , وتحكمت دول وشعوب في دول وشعوب أخرى , وضاع الناس , وأهلك الإنسان شريكه الإنسان.
ولم يوفق أيضا الضد كارل ماركس عندما ألف كتابه (رأس المال) الذي صنفه في ثلاثين سنة وطبع أجزاء منه في حياته وأتم الشقاء للبشرية انجلز عندما طبع الباقي بعد وفاته ليخرج بنظرية سلطة الدولة المطلقة ونزع الحريات , حيث يرى أن ترك الحريات يؤدي إلى تراكم الثورات ويخلق طبقية بين الناس!.
بين دعاة هاتين النظرتين الجائرتين الاشتراكية والرأسمالية ترى وضوح وجمال منهج الأنبياء وهم يعلنون المنهج الحق الدائم:
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
" وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا "
(أوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم).
(وأحل الله البيع وحرم الربا).
(أطعموا البائس الفقير).
(والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم).
بل تناقل أرباب الديانتين اليهودية والنصرانية الوصايا العشر التي جاء بها موسى وفيها (لا تسرق ولاتزن ولا تشته بيت جارك، ولا زوجته، ولا عبده, ولا أمَتَهُ (خادمته)، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئًا مما لجارك.)
كان شعيب عليه السلام من الأنبياء العظام الذين عانوا انحراف الناس في الجانب الاقتصادي , فدعا الناس أولاً لتحقيق العبودية لله , فبها تخلص أعمالهم من الشرك ويحققوا الهدف الأسمى من الوجود , ومن ثم أيضاً حتى يخضعوا بحق لنظام الله , ويكون الرقيب والحسيب على كل شخص الإيمان الذي في قلبه وعقله , فلا يحتاج التاجر حينئذٍ لهيئات رقابية صارمة , بل هو من تلقاء نفسه يبحث عن الشيء المباح الذي ليس فيه ضرر على الناس الذين يتقاسمون معه الحياة على هذا الكوكب الصغير.
يحكي الرب تعالى أصول دعوته في القرآن الكريم " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) ".
تلك الدعوة الطاهرة هل يا ترى يقبلها الجشعون آكلو حقوق الناس بالباطل بسهولة! , هل سيوافقون على ترك الظلم والبطر وسق الفقراء والمساكين!.
لقد كان الزعماء الظلمة في عهده يراقبون الوضع , ولما رأوا خطر تلك الدعوة التصحيحية الهائلة , والخسائر التي ظنوا أنهم سيفقدونها خاطبوا شعيباً أولاً بقولهم:" قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا".
غاية في التهديد والوعيد بل تعدى ذلك أن هددوه بالرجم لأجل فسادهم العقائدي الذي أدى لأفحش ظلم مالي.
ثم حركوا قوى الإعلام وقالوا للجماهير بصوت واضح:" وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ".
أليست تلك الدعوات النبوية جديرة بالدراسة والتحليل , والبحث والتحميص , وأن يدرس أبنائنا في العالم الإسلامي شرقه وغربه نظم المال الشرعية على أنها ضرورة حتمية وليست بقايا تاريخية , او مدرس تقليدية.
لقد حفظت لنا الكتب أن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام خرج إلى السوق فرأى بائعاً غد غش في الطعام بأن وضع الجيد أعلى والطعام المبلل أسفل , فزجره لماذا لم يجعل الطعام المبلل في الأعلى ليراه المشتري , وهنا قال له كلاماً هو قاعدة يسير عليها أتباع الأنبياء: (من غشنا فليس منا).
والله ولي التوفيق وهو الهادي لصلاح البشرية.
وكتبه: خضر بن سند.
¥