ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك: أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [سورة الأنعام آية: 124]، وقال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [سورة الحج آية: 75]. وقال: ومن نشأ بين قوم مشركين جهالا لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم، إذا كان عندهم معروفا بالصدق والأمانة، وفعل ما يعرفون وجوبه واجتناب ما يعرفون قبحه.
وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة، إذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما لم يعلم قبحه، وبين من يفعل ما لا يعرف، فإن هذا الثاني لا يذمونه ولا يعيبونه عليه ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفرا عنه، بخلاف الأول؛ ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفا بشرك، فإنهم نشؤوا على شريعة التوراة، إنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم.
وأما ما ذكره سبحانه في قصة شعيب والأنبياء، فليس في هذا ما ينفر أحدا عن القبول منهم؛ وكذلك الصحابة الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليتهم، وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام، كأبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لم يزل معروفا بالصدق والأمانة، ومكارم الأخلاق، لم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه به، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم.
وقد تبين أن ما أخبر عنه قبل النبوة في القرآن من أمر الأنبياء، ليس فيه ما ينفر أحدا عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم ; ولهذا لم يكن يذكر عن أحد من المشركين عد هذا قادحا في نبوته، ولو كانوا يرونه عيبا لعابوه، ولقالوا: كنتم أنتم أيضا على الحالة المذمومة، ولو ذكروا للرسل هذا، لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف إلا ما أوحي به إلينا.
ولكنهم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، فقالت الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة إبراهيم آية: 11].
قال: وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسول لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله، من أمور النبوة والشرائع؛ ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر، والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم هذا فضلا عن أن تقر به; فعلم أن عدم هذا العلم والإيمان لا يقدح في نبوتهم ; بل الله إذا نبأهم علمهم ما لم يكونوا يعلمون.
قلت: وقوله: وقد اتفقوا كلهم يعني أهل السنة والمعتزلة. ثم قال: قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة غافر آية: 15]، وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [سورة النحل آية: 2] فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي؛ واستدل على هذا بآيات إلى أن قال:
وقد تنازع الناس في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وفي معاني بعض هذه الآيات في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف آية: 3]، وفي قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} [سورة الشورى آية: 52]، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [سورة الضحى آية: 7].
وما تنازعوا في معنى آية الأعراف، وآية إبراهيم، فقال قوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه، ولا كان يأكل ذبائحهم؛ وهذا هو المنقول عن أحمد قال: من زعم أنه على دين قومه فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟
ثم قال الشيخ: ولعل أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام؟ فغلط الناقل عنه، فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام.
وأما كونه لايأكل ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر ; وأحمد من أعلم الناس بالآثار، قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسل ; وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما ذكر إلا في سورة المائدة ; وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله، وتحريم هذا إنما عرف من القرآن.
¥