وقد جاء في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي r لما رأى التصاوير على ستر عندها تلون وجهه وهتكه، وقال: , إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله - وهذا الحديث يدل دلالة ظاهرة على أن الصور التي ليس لها ظل، أنها تدخل في عموم الوعيد؛ لأن هذا الستر إنما هو صور منقوشة، جاء في صحيح مسلم أنها صور لخيل، استثنى العلماء من تصوير ذوات. . . من التصوير عموما، استثنوا أمورا فأجازوا فيها التصوير: الأمر الأول: تصوير غير ذوات الأرواح، مروي ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فإنه يجوز تصوير الشجر والحجر والجبل ونحو ذلك، من الأمور الجائزة، ولا تدخل في التصوير المحرم.
ثانيا: إذا كانت الصور ممتهنة، فإنها تجوز، مثل أن تكون وسادة أو غطاء أو سفرة، أو نعالا حذاء، ونحو ذلك، ويدل لهذا أنه جاء في حديث عائشة السابق في قصة الستر الذي فيه صور، قالت عائشة: فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. وفي حديث أبي هريرة، أن جبريل قال للنبي r في القصة المشهورة قال: , فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع منه وسادتان منبوذتان توطئان - أخرجه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح من جهة الإسناد. فهذا يدل على أن الصور إذا كانت ممتهنة أنها جائزة.
الأمر الثالث مما استثناه العلماء من التصوير: لعب البنات، وألعاب الأطفال عموما، ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: , كنت ألعب بالبنات عند النبي r وكانت صواحب يلعبن معي: -جاء عند أبي داود والنسائي بسند صحيح أن النبي r لما كشف الستر، ورأى تلك الألعاب قال: , ما هذا يا عائشة، قالت: بناتي. قالت: ورأى فيها فرسا له جناحان، فقال: ما هذا؟ قلت: فرس له جناحان، ألم تسمع أن لسليمان خيل لها أجنحة، فضحك - عليه الصلاة والسلام - ولم ينكر عليها - وهذا هذه المسألة محل خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إن هذا منسوخ، ولكن الصحيح أنه لم ينسخ، وهو قول جماهير أهل العلم، أنه يجوز ذلك للصغار، وأنه يجوز للصغار من الصور ما لا يجوز للكبار.
والحكمة في ذلك قيل: إن ألعاب الصغار فيها نوع امتهان فتكون من القسم الذي ذكرناه، وهو الصور الممتهنة؛ لأن الصور إذا كانت مع الطفل، فلا يظن أنها تعظم، وإنما تكون صورا ممتهنة، وقيل: إن الحكمة أن فيها تدريبا للصغار خاصة إذا كن فتيات، ففيها تدريب لها على أمر بيوتهن.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: استدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات؛ لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، هذه مقدمة بين يدي بحث هذه المسألة.
نعود بعد ذلك لمسألتنا وهي النازلة التي بين أيدينا وهو التصوير الآلي بأنواعه سواء كان تصويرا فوتوغرافيا أو تصويرا تليفزيونيا، وقبل أن نذكر أقوال العلماء في هذه المسألة نريد أن نلقي الضوء على كيفية التصوير، كيفية عمل التصوير؛ لأن فهم هذا مهم جدا لمعرفة الحكم الشرعي؛ ولأنه وقع خلط في بعض المسائل بسبب عدم فهم صورة المسألة فهما صحيحا.
وسبق أن ذكرنا في أول الدورة أن فهم الفقيه للصورة الحقيقية للمسألة على وجه دقيق مهم جدا في تقرير الحكم الشرعي، وأكبر إشكالية تواجه الفقهاء المعاصرين هو تصوير المسألة تصويرا واضحا ودقيقا، ولهذا فإنه يقع في كثير من الأحيان الخلاف بسبب عدم الاتفاق على التصوير الدقيق للمسألة، فأقول: لفهم عملية وطبيعة التصوير من أثرٍ في الحكم فلعلي ألقي الضوء على كيفية التصوير؛ حتى يتبين الأمر ويتضح بشكل جلي.
التصوير بأنواعه سواء كان فوتوغرافيا أو تليفزيونيا يشبه نظام الرؤية في العين، بل إنه اقتبست فكرة التصوير من عين الإنسان، عين الكائن الحي عموما، كما أنه اقتبست فكرة الطيران من الطائر وكيف يطير، هكذا أيضا التصوير هو يشبه نظام الرؤية في العين، ولهذا يسميه بعض الباحثين بالعين الصناعية، والإنسان عندما يرى الأشياء بعينه هل يصدر من العين أشعة، هل يصدر من العين أشعة الضوء لكي يرى بها الأشياء؟ أم أن الأشياء التي يراها هي التي تنعكس منها أشعة الضوء لتسقط على العين؟
¥