فكما أن الأزمة الحالية أصابت الجميع بالذهول، فإنها تسببت أيضاً في القضاء على مجموعة من الأساطير المتعلقة بالحرية الكاملة لرؤوس الأموال ورفع يد الدولة تماماً عن الأسواق والإقراض المستمر من خلال أسعار فوائد مرتفعة، وهي الأمور التي ظلت لفترة طويلة جزءاً من المسلّمات لا يمكن الاقتراب منها أو محاولة تغييرها، لتأتي الأحداث الأخيرة وتجعل الجميع يعيد التفكير في جميع النظم المالية السائدة في العالم، والقائمة بشكل أساسي على مبدأ الفوائد وبيع الديون (الربا)، وهي المبادئ التي كانت العامل الرئيس وراء هذه الأزمة التي بدأت بوادرها بالارتفاع المتوالي لسعر الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ عام 2004، وهو ما شكل زيادة في أعباء القروض العقارية من حيث خدمتها وسداد أقساطها، وتسبب ذلك في إعلان مصرف "ليمان براذرز" إفلاسه وهو رابع أكبر مصرف استثماري بالولايات المتحدة تم تأسيسه منذ 158 عاماً على يد مهاجرين يهود ألمان، ليمْتَدّ تأثيرُ الأزمة ويؤدي ذلك إلى إفلاس عدد من البنوك كان آخرها بنك "واشنطن ميوتشوال" الذي يعتبر سادس مصرف في الولايات المتحدة من حيث حجم الأصول، بالإضافة إلى بنك "ميريل لينش"، ومجموعة التأمين "إيه آي جي"، بل وتنتقل تداعيات الأزمة إلى أوروبا وباقي دول العالم، ليتم إعلان إفلاس بنكي”برادفورد” الانجليزي و“فورتيس” الهولندي بالإضافة إلى فشل خطة إنقاذ ثاني أكبر بنك ألماني للإقراض العقاري.
هذه الأزمات المتتالية أدت حالياً إلى إعادة النظر في كل العلاقات المالية التي تحكم العالم، لتتجه أنظار الجميع صوب النظم الإسلامية للمعاملات المالية التي لم تطلها الأزمة الحالية بسبب عدم تعاملها في بيع الديون إلى جانب ابتعادها عن المضاربات الكبيرة التي حدثت في البنوك الأوربية والأميركية. وكان هذا سبباً في أن يبدأ الكثيرون على مستوى العالم في دراستها والبحث في إمكانية تطبيقها، للدرجة التي دعت "رولان لاسكين" رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال دفينانس" لكتابة افتتاحية الأسبوع الماضي تحت عنوان "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟ " وطالب من خلال مقالته بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة.
كما اقترح الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "موريس آلي" الحلول للخروج من الأزمة وإعادة التوازن من خلال تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب 2% .. وهو ما يتطابق تماما مع إلغاء الربا ونسبة الزكاة في النظام الإسلامي.
ويبدو أن هذه النداءات قد بدأت تظهر في حيز التطبيق الفعلي، فقد أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك، في وقت سابق قراراً يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي، كما أصدرت نفس الهيئة قراراً يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق الفرنسية.
كما كان جلياً خلال الفترة السابقة تنامي الطلب على النظم الإسلامية في المعاملات المالية حول العالم ليحقق نموّاً لم يشهده من قبل، وهو ما أغرى عددًا من المؤسسات المالية والبنوك العالمية لتوفيق أوضاعها بحيث تقدم خدمات مصرفية تتماشى مع الشريعة الإسلامية، ويقدر عدد البنوك والمصارف الإسلامية بنحو 300 بنك في 75 دولة حول العالم تبلغ إجمالي ودائعها 30 مليار دولار أمريكي، ويتوقع أن تتزايد قيمتها إلى تريليون دولار بحلول عام 2013. واعتبرت صحيفة "الإيكونومست" البريطانية مؤخراً أن البنوك الإسلامية قد فرضت واقعاً جديداً على السوق المصرفية العالمية حتى اقتحمت مصطلحات "المشاركة" و"الصكوك" و"التكافل" قواميس البنوك الغربية، واستطاعت البنوك الإسلامية أن تطرح مفهوماً جديداً في التعاملات المصرفية.
ويرى البعض أن هذا الازدهار الواضح في الأعمال المصرفية الإسلامية، وظهورها كبديل للبنوك التقليدية، إنما يأتي تحت بند العزلة الشعورية من جانب الإسلاميين وانفصالهم عن الواقع الفعلي للحياة، ولكن الرد هذه المرة يأتي من البروفسور "موريس آليه" الاقتصادي الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد، والذي يرى أنه بمرور الوقت تتزايد أعداد الساخطين أو المرتابين من الخدمات المصرفية التي يلقونها ويعتبرونها غير منصفة أو منافية للمبادئ الأخلاقية، وذلك يؤدّي إلى بروز الأعمال المصرفية الإسلامية ذات المبادئ الأخلاقية الخاصة والتي تساهم في إظهار نواحي أكثر إيجابية للإسلام.
ويبقى في النهاية التساؤل مطروحاً عن إمكانية تطبيق النظم المالية والاقتصاد الإسلامي كبديل للنظم التقليدية السائدة حالياً، وحدود الاقتصاد الحر وعلاقة الدولة وتدخلها في الشؤون المالية، وهو ما سنحاول الإجابة عليه في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
د. محمد سعد _ اعداد: مجموعه ريح الشرق
تعليق: قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم:
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
جاء في تفسير ابن كثير:
يُخْبِر اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يَمْحَق الرِّبَا أَيْ يُذْهِبهُ .. إِمَّا بأَنْ يُذْهِبَهُ بالْكُلِّيَّةِ مِنْ يَد صَاحِبه أَوْ يُحْرِمهُ بَرَكَة مَاله فَلَا يَنْتَفِع بهِ بَلْ يَعْدَمهُ بهِ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقِبهُ عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة.
¥