لقد شاع على ألسنة الناس من المثقّفين والسياسيّين والصحُفيين وغيرهم إذا نزلت مصيبة كالزلزال أو إعصار أو نحوهما قالوا: هذه كارثة طبيعية، اتّباعًا للكفرة الملاحدة الذين يعرفون ظواهر الحياة، أمّا بواطنها وسنن الله الكونية فهم عنها جاهلون، كما قال تعالى: ?يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم عنها غافلون?، فمتى كان للطبيعة إرادة وقدرة تتصرّف في الكون؟! بل هي خلق من خلق الله، يتصرف فيها كيف يشاء، وكما شاء.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
«لم يعلم هؤلاء الجهّال الضلاّل أنّ الطبيعة قوّة وصفة فقيرة إلى محلّها محتاجة إلى حامل لها، وأنها من أدلّ الدلائل على وجود أمره في طبعها وخلقها، وأودعها الأجسام، وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته، ومملوك من مماليكه، وعبيدة مسخّرة لأمره تعالى منقادة لمشيئته. ودلائل الصنعة وأمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأنّها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرّف في ذاتها ونفسها، فضلاً عن إسناد الكائنات إليها» [طريق الهجرتين: (ص 159)].
ثمّ إنّ هذه المقولة تجعل المسلم ينظر إلى الحياة نظرة مادية بحتة، وتفرغ قلبه من معرفة الله تعالى والخوف منه، والرجوع إليه عند الشدائد.
ثمّ اعلم ـ أخي المصاب أنّ في الابتلاء حِكَمًا جليةً وفوائد سنية، إذا أدركها العبد وعرفها تسلى عن المصائب وبردت كبده عند فقد الحبائب.
منها أنّ المصائب ابتلاء من الله تعالى ليميز المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب قال تعالى: ?ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين? [العنكبوت: 1 ـ 3].
ومنا رجاء حصول الثواب العظيم وما أعدّه الله تعالى للصابرين وقد وعد الله تعالى الصابرين على المصائب بثلاثة أمور، وخصّهم بها دون غيرهم، كلّ واحد منها خير من الدنيا وما فيها، وهي صلواته تعالى عليهم ورحمته وهدايته لهم فقال: ?ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون? [البقرة: 155 ـ 157].
قال عمر بن الخطاب: «نعم العدلان، ونعم العلاوة ثمّ تلا الآية» [علّقه البخاري (3/ 205 الفتح)].
والعدلان: الصلاة والرحمة.
والعلاوة: الاهتداء.
قال عبد الله بن مطرّف بن. عبد الله بن الشخّير وقد مات له ولد: «والله لو أنّ الدنيا وما فيها لي فأخذها الله تعالى مني ثمّ وعدني عليها شربة ماء لرأيتها بتلك الشربة أهلاً فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟!» [برد الأكباد لابن ناصر الدين 84].
ومنها أنّ هذا الابتلاء قد يكون خيرًا للمصاب من حيث يعلم أو من حيث لا يعلم، فيرضى بما اختار الله له قال تعالى: ?فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا? [النساء: 19].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» [رواه البخاري عن أبي هريرة].
وقال أيضًا: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤِمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» [رواه مسلم عن صهيب بن سنان].
وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى بعض هذا الخير فقال: «إنّ الإغراق والإهلاك من الرب تعالى لا يخرج قطّ عن المصلحة والعدل والحكمة، فإنه إذا أغرق أولياءه وأهل طاعته فهو سبب من الأسباب التي نصبها لموتهم وتخليصهم من الدنيا، والوصول إلى دار كرامته ومحلّ قربه. ولا بد من الموت على كلّ حال، فاختار لهم أكمل الموتتين وأنفعها لهم في معاده ليوصلهم إلى درجات عالية لا تنال إلاّ بتلك الأسباب التي نصبها الله موصلها، كإيصال سائر الأسباب إلى مسبّباتها.
قال: لعلّ الإغراق وتسليط القتل أسهل الموتتين عليهم ـ مع ما في ضمنه من الثواب العظيم ـ فيكون قد بلغ حسن اختياره لهم إلى أن خفّف عليهم الموتة وأعاضهم عليها أفضل الثواب ... » [مفتاح دار السعادة: (2/ 488 ـ 489) الحلبي].
ولهذا علّمنا النبي صلى الله عليه وسلَّم أن نقول عند المصيبة (إنا لله وإنا إليه راجعون، اللّهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها) قال: إلاّ أخلفه الله خيرًا منها كما تقدّم من حديث أم سلمة، ولهذا لما مات أبو°سلمة قالت أمُّ°سلمة: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة، أوّل بيت هاجر إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلَّم ثمّ إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. [رواه مسلم].
ومنها أنّ المصائب تكفّر الذنوب، لما رواه أبو°سعيد وأبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَة يُشَاكُّهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» [متفق عليه].
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: «مَا يَزَالُ البَلاَءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» [رواه الترمذي بإسناد صحيح، صحيح الجامع (5691)].
وهناك فوائد أخرى تركناها خشية الإطالة.
وفي الختام، فإنّنا نتقدّم بتعازينا الخالصة إلى جميع عائلات الضحايا، مترحمين على موتاهم، ونقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى، فاصبر واحتسب».
وسبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
¥