تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأغش الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويحبون نشر الفاحشة؛ لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء، وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.

والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسبة تدخل فيما لا يعني، فما أضعف عقولهم، وما أشد ضلالهم وانحرافهم؛ إذ كيف تكون الحسبة تدخلا فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!

والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهوات؛ لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن أنواع الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.

وتلك الحجة السمجة التافهة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل عليهم السلام يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له [أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ] {هود:87}

أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟ والمفسدون في هذا العصر يكررون تلك المقولة بهذه الصورة أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشاءون دون قيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!!

إنها نفس الحجة التي احتج بها الأقدمون فكانت سببا في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.

إن من نظر في سير الأنبياء عليهم السلام، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاص متنوعة، وإن كان الشرك موجودا في كل الأمم التي عذبت؛ ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك.

وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضارة المعاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنكرات المجتمعة؛ رفعا للعذاب، وإصلاحا للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذن بجميعها؟!

ونجد أن كل مجال من مجالات المنكرات قد انتشر في أمة من الأمم السالفة دون الأخرى، فتصدى له نبي من أنبياء الله تعالى منكرا له، ومحتسبا على قومه فيه:

فَمَثَّلَ احتسابُ إبراهيم وموسى عليهما السلام على الطاغيتين المستكبرين مقاومة الفساد السياسي، ومكافحة الظلم والطغيان، والوقوف في وجوه الطغاة المتجبرين، سواء كانوا أفرادا أم دولا.

ومَثَّلَ احتسابُ هود وصالح عليهما السلام مقاومة الفساد العمراني والحضاري، والنهي عن الرفاهية والسرف في البنيان، والتباهي بالقوة، والبطش بالناس.

ومَثَّلَ احتساب لوط عليه السلام مقاومة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، والمحافظة على طهر الناس وعفافهم.

ومَثَّلَ احتساب شعيب عليه السلام مقاومة الفساد الاقتصادي، ومكافحة الغش في المعاملات، والسرقة بأي سبيل كان.

كما مَثَّلَ احتساب لوط وشعيب عليهما السلام مقاومة الفساد الأمني الذي هو سبب للخوف والجوع.

فمن قاوم في هذا العصر مجالات المفسدين كلها، فأنكر على الكفار كفرهم ودعاهم للإسلام، وأنكر على العاصين معصيتهم وأمرهم بالطاعة، وأنكر على الظلمة ظلمهم وأمرهم بالعدل، وأنكر على المسرفين إسرافهم، وعلى أهل الفساد المالي فسادهم، وعلى أصحاب الفواحش والمروجين لها فحشهم وفجورهم. وما من فساد إلا وله فيه إنكار بقول أو فعل فقد اقتدى بالأنبياء كلهم، وسار سيرتهم، وامتثل قول الله تعالى [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] {الأنعام:90} وكفى بذلك شرفا وفضلا.

ومن اختار مجالا من مجالات الفساد، واحتسب على الناس فيه، ووقف في وجه المفسدين، وتحمل السخرية والأذى في سبيل ذلك، فقد اقتدى برسول من رسل الله تعالى، وشارك في حفظ المجتمع من الانحراف والعذاب.

ومن لم يكن هذا ولا ذاك، وليس له في مقاومة الفساد والمفسدين أي نصيب، فقد حرم خيرا كثيرا، وسيسأل يوم القيامة عن تقصيره وخذلانه.

وأقبح منه من سلَّ قلمه، وأطال لسانه بالكذب والتجني، والافتراء والتشفي من أهل الاحتساب، واختلق القصص عليهم، أو سمعها ثم روجها في المجالس وهو لا يعلم صدقها، ولربما زاد عليها من نفسه للإثارة وشدِّ الناس إليه، وكم من فرية سوِّدت بها الصحف، وضجت بها القنوات والإذاعات، على أهل الخير والاحتساب، وعند التتبع والتحقيق بان أنها محض افتراء واختلاق، أراد منه المفسدون تأليب العامة على أهل الصلاح والإصلاح!!

ومن روج الشائعات على أهل الحسبة فليعلم أنه مشارك في نشر الفساد وإعانة المفسدين، وأنه قد سار من حيث يشعر أو لا يشعر سيرة المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وانحاز وهو يعلم أو لا يعلم إلى صف المنافقين والشهوانيين، ويخشى على دينه ولو كان في عداد المصلين، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الضلال والهوى.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير