واحتجاج هؤلاء بحديث ابن عمر في غاية الفساد، مع أن ابن عمر هو الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الصوم (1913)، صحيح مسلم الصيام (1080)، سنن النسائي الصيام (2140)، سنن أبو داود الصوم (2319)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 43). إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، فكيف يكون موجب حديثه العمل بالحساب. وهؤلاء يحسبون مسيره في ذلك الشهر ولياليه. وليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلا، بل أية طريقة سلكوها فإن الخطأ واقع فيها أيضا، فإن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما، بل لا يمكن أن يكون إلى معرفته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقا كما سلك الأولون منهم من لم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد، وإنما هو تقريب، مثل أن يقال: إن رئي صبيحة ثمان وعشرين فهو تام، وإن لم ير صبيحة ثمان وعشرين فهو ناقص. وهذا بناء على أن الاستسرار لليلتين، وليس بصحيح، بل قد يستسر ليلة تارة، وثلاث ليال أخرى.
وهذا الذي قالوه إنما هو بناء على أنه كل ليلة لا يمكث في المنزلة إلا ستة أسباع ساعة لا أقل ولا أكثر، فيغيب ليلة السابع نصف الليل ويطلع ليلة أربعة عشر من أول الليل إلى طلوع الشمس، وليلة الحادي والعشرين يطلع من نصف الليل، وليلة الثامن والعشرين إن استسر فيها نقص وإلا كمل، وهذا غالب سيره، وإلا فقد يسرع ويبطئ.
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 24)
وأما العقل معطوف على قوله قبل: أما السمع.: فاعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة، أو لا يرى البتة على وجه مطرد، وإنما قد يتفق ذلك، أو لا يمكن بعض الأوقات؛ ولهذا كان المعتنون بهذا الفن من الأمم: الروم، والهند، والفرس والعرب وغيرهم مثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء، ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفًا واحدًا، ولا حدوه كما حدوا اجتماع القرصين، وإنما تكلم به قوم منهم في أبناء الإسلام: مثل: كوشيار الديلمي، وعليه وعلى مثله يعتمد من تكلم في الرؤية منهم. وقد أنكر ذلك عليه حذاقهم مثل أبي علي المروزي القطان وغيره، وقالوا: إنه تشوق بذلك عند المسلمين، وإلا فهذا لا يمكن ضبطه.
ولعل من دخل في ذلك منهم كان مرموقًا بنفاق، فما النفاق من هؤلاء ببعيد، أو يتقرب به إلى بعض الملوك الجهال، ممن يحسن ظنه بالحساب، مع انتسابه للإسلام.
وبيان امتناع ضبط ذلك: أن الحاسب إنما يقدره على ضبط شبح الشمس والقمر، وجريهما أنهما يتحاذيان في الساعة الفلانية في البرج الفلاني في السماء المحاذي للمكان الفلاني من الأرض، سواء كان الاجتماع من ليل أو نهار وهذا الاجتماع يكون بعد الاستسرار، وقبل الاستهلال، فإن القمر يجري في منازله الثمانية والعشرين، كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستسر ليلة أو ليلتين؛ لمحاذاته لها، فإذا
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 25)
خرج من تحتها جعل الله فيه النور ثم يزداد النور، كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها، إلى أن يجامعها؛ ولهذا يقولون: الاجتماع والاستقبال، ولا يقدرون أن يقولوا: الهلال وقت المفارقة على كذا. يقولون: الاجتماع وقت الاستسرار، والاستقبال وقت الإبدار.
ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار الذي هو الاجتماع والاستقبال، فالناس يعبرون عن ذلك بالأمر الظاهر من الاستسرار الهلالي في آخر الشهر وظهوره في أوله، وكمال نوره في وسطه، والحساب يعبرون بالأمر الخفي من اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، ومن استقبال الشمس والقمر الذي هو وقت الإبدار، فإن هذا يضبط بالحساب.
وأما الإهلال فلا له عندهم من جهة الحساب ضبط؛ لأنه لا يضبط بحساب يعرف كما يعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة؛ وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة؛ لتحول الأرض بينه وبين الشمس فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لا بد أن يطلع الهلال، وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين.
¥