ولسنا نبدي خافيا، ولانفضح سراً، إذا قلنا أن من تسمي نفسها البنوك الإسلامية، تسرع إلى الخضوع للقرارات الأمريكية الظالمة، حتى إلى درجة تجميد حسابات المؤسسات الخيرية الإسلامية، بل بعضها سبق البنوك الربوية في هذه المسارعة!!
وهي بذلك بدل أن تحقق هدف القضاء على الفقر في بلاد الإسلام، وهو ثاني أعظم أهداف الإقتصاد الإسلامي، تعاونت مع الغرب بقيادة أمريكا الصليبية، لزيادة معاناة فقراء المسلمين، ومنع وصول التبرعات لأيتام المسلمين، وضعفاءهم!
وقد يعتذر معتذر هنا بأنَّ ذلك بسبب كونها تابعة للنظام السياسي الخاضع أصلا للإرادة الأمريكية، ولعمري إن هذا لمن أعظم عيوب هذه المؤسسات، فكيف يمكنها أن توجد الربط المطلوب منها، بين إقتصاد الأمة، وأهداف رسالتها ـ وهو ثالث أعظم أهداف النظام الإقتصادي الإسلامي ـ إذا كانت هي تابعة للنظام السياسي العربي الذي يقوض أهداف الأمة، ويهدم رسالتها!!
هذا وكلُّ من يشهد عن قرب تعاملات هذه البنوك ـ التي فضلنا تسميتها غير ربوية على تسميتها إسلامية ـ يرى بوضوح أنها لاتزال تبتعد عن:
إستثمار مال الأمة فيما يعود عليها بالنفع، ويقضي على مشكلات الفقر، إلى تضخيم ارتباطها بالبنوك الغربية، ومؤسساتها.
وعن تحويل المساهمين لشركاء لا مقترضين، إلى زيادة عدد المدينين للبنك في صورة بيوع مرابحة شكلية، وتورق غير شرعي، واستصناع صوري .. إلخ
وعن الظهور بصورة الحرب على الربا وعلى الحيل عليه، إلى اختراع معاملات ظاهرها بيع، وباطنها القرض بفائدة، حتى أصبح ما يسمَّى ثقافة (بطاقات الإئتمان) أسعد ما تكون في بعض هذه البنوك!
حتى لقد أسس بعضها شركات تأمين، تابعة لها، شملت عقودها حتى الديون المؤجلة على الزبون، وحتى لو سدد ديونه كاملة، لم ترجع إليه أقساط التأمين على دينه!!
وعن الإسهام في نشر ثقافة الإحسان، وتنمية المال بالصدقة، وربط الرزق بالإيمان، إلى الظهور بمظهر الجشع، والرغبة الجامحة في الربح السريع.
ولهذا نرى بوضوح أن المشاريع الخيرية التي تؤسساها وترعاها البنوك التي تسمى نفسها إسلامية قليلة جداً، وأحيانا معدومة تماماً، وقد ظهرت في عيون الناظرين في صورة التاجر الذي لايهمه سوى إرتفاع هامش الربح، مستغلاً كلّ ما يمكنه إستغلاله من حاجة الناس، أو رغباتهم.
أما رحمة المعسرين، وإسقاط الديون عمَّن وقعت عليهم الكوارث، فهيهات أن يحدث ذلك! بينما تفعله بعض البنوك الربوية، إن كان الدين يسيراً، فوا أسفاه!!
ومن عجائب جشع هذه البنوك التي تسمي نفسها إسلاميّة، أنَّ أحدها، لم يدع قولاً شاذَّا يبيح معاملة مصرفيّة تصبُّ عليه الأرباح، إلاَّ اتَّبعه، ولم يتجاوز خلافاً على مسألة في بيع، إلاّ أخذ بالقول المرجوح الضعيف إذا كان يمكّنه من الحصول على الربح!
فلما جاءت مسألة (ضع وتعجّل) ـ أي أعجِّل لك الدين وضع عنِّي بعضه ـ وفيها أصح قولي الفقهاء جواز أن يسقط الدائن بعض الدين، إذا تعجّل المدين الدفع قبل الأجل، تمسَّك البنك بقول من يحرِّم ذلك، لأنَّ المصلحة هنا صارت في خانة الزبون، وأصبح التيسير لصالحه!
ومعلوم أن من أعظم أسباب تدهور مسيرة هذه البنوك، أنها لاتسمع النقد الصريح الذي يقوِّمها، وليس ثمة احتساب من علماء مستقلين على معاملاتها، فحتَّى الهيئات الشرعية التي تفتي لها، هم ـ كلجان الإفتاء الرسمية التابعة للأنظمة السياسية التي تفتي بهواها ـ يتقاضون رواتب عالية، ومكافآت مجزية، من نفس البنك، فأنَّى لهم أن يوقفوا هذه البنوك عن ابتعادها عن أهداف الإقتصاد الإسلامي!!
ولن أقسو بالنقد إنْ قلت إنه قد أصبح كلُّ همِّهم أن يبقى البنك منافسا للبنوك الربوية، من حيث الملاءة، والسمعة المالية ـ التي أحيانا تكون وهميَّة ـ في البورصات، وأن تكون الفتاوى متساوقة مع هذا الهدف الأسمى لاغير!
هذا ولايعني هذا النقد الصريح للبنوك غير الربوية، أنها لم تعد ضرورية، بل هي خطوة في إتجاه صحيح، ومن هنا فالذين يحاولون إزالة الفرق بينها، وبين البنوك الربوية، التي تعلن الحرب على الله تعالى، ودينه، وتبيح الربا جهارا نهارا، كاذبون مفترون.
ولا يزعم أنه لافرق بين البنوك التي تحرِّم الربا، والبنوك الربوية المعروفة، إلاَّ جاهل، أو ضالُّ خبيث الطويِّة، يقصد من ذلك محاربة أي خطوة يقصد بها الناس الإقتراب من شريعة الله تعالى، ومن تمثّلها في حياتهم.
وإنما المقصود بهذا المقال التنبيه إلى أنه من الخطورة بمكان، أن نهلّل لهذه البنوك، ونضفي الشرعية الكاملة على جميع تعاملاتها، لمجرد إعلانها أنها إسلامية، وخوفنا من استغلال البنوك الربوية لنقدنا ضدها.
بينما نحن نرى أنَّ معالم الإقتصاد الإسلامي،كما يليق بعظمة شريعتنا، وطهرها، ونقاءها من ملوِّثات الرأسمالية الغربية الربوية، غير ممثّلة بعدُ في هذه البنوك غير الربوية.
وهي حتَّى يكون لها إسهامات واضحة في حلِّ مشكلات الفقر، وإصلاح حال الفقراء في العالم الإسلامي، واستقلال مشرِّف عن الهيمنة الغربيَّة، وربط راقي بين المال والعقيدة الإيمانية، وبين الاقتصاد وأهداف الأمة، وحتَّى تتخلَّص من عقدة تحوِّلها إلى دائن كبير، بدل شريك يثري ويحرك الإقتصاد في المجتمع.
حتَّى إذا حصل ذلك يمكننا باطمئنان أن نقول إن هذه المؤسسات المصرفية غير الربوية، يصلح أن تكون مثالا، يستعمله الخبراء الإقتصاديون الإسلاميون في التبشير بالنظام الإقتصادي الإسلامي العالمي، أما الآن فينبغي أن يكون التمثيل بها حذراً، وأن يُقدم النظام الإقتصادي الإسلامي الكامل على أنه مشروع ينتظر التطبيق.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
¥