وهذا الحديث صريح في أن لأهل كل بلد رؤيتهم، وأن هذا عمل الصحابة -رضي الله عنهم- بلا خلاف معلوم بينهم؛ فإنه لم ينقل عن أحد منهم خلاف قول ابن عباس -رضي الله عنهما- لو ثبت أنه موقوف عليه مع كونه -على الظاهر- مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينكر أحد من الصحابة على ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله ومخالفته لمعاوية -رضي الله عنه- وعدم الاعتداد برؤية أهل الشام، وهذا هو فهم الصحابة والسلف كما نقله الترمذي عن أهل العلم دون تخصيص أو تقييد لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) متفق عليه، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون) رواه الترمذي، وصححه الألباني، وفي رواية: (الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس).
فالخطاب عند الصحابة موجه لأهل كل محلة عملُهم واحد بقول حاكمٍ أو قاضٍ أو مفتٍ أو عالم؛ فطالما كان عملهم واحداً فيلزم العمل بعمل أهل المحلة، ولم يفهموا -أي: الصحابة رضي الله عنهم- منه أنه موجه للأمة بأسرها أو أن ألفاظ: (الناس) أو (يوم تفطرون) أو (يوم تصومون) مقصود بها المسلمون في أرجاء الأرض المختلفة، وقد نقل ابن عبد البر -رحمه الله- الإجماع على أن ما تباعد من الأقطار كالأندلس وخراسان لا تلزمهم رؤية بعضهم، فدل ذلك على إجماع العلماء على أن الخطاب في الحديث، ولفظ: (الناس) في الحديث الآخر ليس على عمومه لجميع المسلمين في العالم.
ومع أن هذا هو الذي نرجحه في هذه المسألة؛ إلا أن الخلاف فيها ما يزال سائغا عند عامة أهل العلم، وإن كان عامتهم من السلف والخلف لا يرون للمخالف أن يخالف أهل بلده؛ لأن المسألة عندهم من النوع الذي يَرفعُ فيه حكمُ الحاكم الخلافَ في حق المعينين، وإن خالف أحد فلا يرون له إظهار خلافه لأهل بلده، فلا يظهر الفطر في آخر أيام رمضان، ولا يجمع الناس على صلاة القيام، أو يأمرهم بالصيام، أو يصرح بأن من أفطر لعدم ثبوت الرؤية في بلده وإن ثبت في بلدٍ آخر هو مفطر ليوم من رمضان، وكذا لا يجوز جمع الناس على صلاة العيد تبعا لبلد غير بلده -الذي يصوم الناس فيه هذا اليوم على أنه من رمضان-، وهذا الذي لابد أن يُنبه له الإخوة في جميع البلاد.
يبقى أمر آخر وهو مشروعية العمل بالحساب؛ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين) متفق عليه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه البخاري.
ونُقل الاتفاق على عدم مشروعية العمل بالحساب عن السلف -رضوان الله عليهم- ونحب أن نبين أولا أن للمسألة شقين كثيرا ما يقع الخلط بينهما:
1 - الشق الأول: وهو العمل بالحساب في إثبات دخول الشهر ولو لم ير الهلال، وهذا القول مخالف لصريح الحديث في وجوب العمل بالرؤية، وهذا هو الذي عُدَّ فيه المخالف شاذا، وإن كان يوجد من عهد التابعين من يقول بهذه المسألة؛ إلا أنه لا يعتد بخلافه عند عامة أهل العلم ولا يكون اختلافا سائغا.
2 - الشق الثاني: وهو عدم قبول شهادة الشهود المثبتين للرؤية إذا خالفوا الحساب، والبعض يظن أن هذا تقديم للعمل بالحساب على الرؤية مطلقا فيدخله في النوع الأول الذي يكون الخلاف فيه غير سائغ، والصحيح أن هذه المسألة لها حالان:
الحال الأول: أن يكون الحساب ظنيا لقلة عدد من يحسب، ولأن مقدماته ظنية ولوقوع الاختلاف بين الحساب في زاوية الرؤية ومقدار مكث الهلال بعد الغروب حتى تمكن رؤيته ونحو ذلك؛ فهذه الحالة ملحقة بالنوع الأول الذي لا يسوغ فيه تقديم العمل بالحساب على شهادة الشهود، وإن كان يستفاد من الحساب لزوم التأكد من الشهادة وعدالة الشهود وضبطهم ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
"وأما الفريق الثاني فقوم من فقهاء البصريين ذهبوا إلى أن قوله: (فاقدروا له) تقدير حساب بمنازل القمر.
¥