حجِّه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ([3])، وفي البخاري (1773) ومسلم (1349) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلاَّ الجَنَّة».
ولمَّا كانت مناسكُ الحجِّ وأفعالُه تعبديَّة توقيفيَّة لا مجال للعقل فيها، لم يحسُن بالمسلم الحاجِّ الرَّاجي ثوابَ ربِّه عزَّ وجل إلاَّ تجريد الإخلاص ومتابعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في كيفيَّة حجِّه، خاصَّةً وأنَّه صلى الله عليه وسلم قد رسم في حجّته لأُمَّته ـ عمليًّا ـ كيفيَّة أداء هذه الفريضةِ العظيمةِ، وحثَّ على تلقِّي كلَّ ما يصدر منه من أعمالٍ وأقوالٍ، فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ([4]).
وقد فهم الصَّحابة رضي الله عنهم هذا الأمر وعلموه وعملوا به فأطاعوا الله واتَّبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوجز ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كلمته الشهيرة لمَّا جَاءَ إِلى الحجَرِ الأَسْود فَقَبَّلَهُ؛ قَالَ: «إنّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» ([5]) فعاشت الأمَّة في زمنها الأوَّل رَدحا من الدَّهر على هذا الاعتقاد الصافي، لا تعبد أحجار بيت الله الحرام فضلًا عن غيرها من الأحجار، وإنَّما تعبد ربَّ هذا البيت الَّذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ومعالم التَّوحيد فيها فاشية، ومظاهر الشرك لم تعد بادية، إلى أن بُليت الأمَّة بطوائف من المنتسبين إلى الإسلام استبدلوا الَّذي هو أدنى بالَّذي هو خير وتركوا هدي محمَّد صلى الله عليه وسلم، وخرقوا جَناب التَّوحيد بمعاول زيفِهم وباطلهم، بتقديسهم الأشخاص وتعظيمهم المشايخ والصَّالحين والأموات، فشيَّدوا القباب والأضرحة، وبنوا المساجد والمشاهد على القبور، وعلقوا عليها الستور، وأوقدوا عندها القناديل والسُّرج والشموع، وبالغوا في تعظيمها، فطافوا حول تلك القبور وتمسَّحوا بها، وتبرَّكوا بترابها واستلموا جدرانها وأركانها، وعفّروا وجوههم عند عَتباتها، ورفعوا أكفَّ الدُّعاء والضَّراعة والاستغاثة عند أبوابها، يرجون عندها إجابةَ الدَّعوات، ونزولَ البركات، وقضاءَ الحاجات، وتفريجَ الكُربات، ويتقربون إليها بأنواع القُربات من النُّذور والذبائح والصَّدقات، فشدُّوا إليها الرِّحال، ولازموها بالوصال، وأدرُّوا عليها بالأموال، وجعلوا لها مواسم يحجُّون فيها إليها كما يحجُّ الناس إلى بيت الله الحرام، وأحدثوا عندها طقوسًا غريبة، وشعائر عجيبة تمجُّها نفوس ذوي الحسِّ الرَّشيد والعقل السديد من تمايل ورقص ولطم وأنين وصراخ وعويل في سلسلة طويلة من المنكرات المحدثات المستبشعات التي هي من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن، ويحسبون بعد هذا كلِّه أنَّ أفعالهم هذه من أعظم أعمال البرِّ والدِّين، وواللهِ الذي لا إله إلا هو ما أُتِيَ هؤلاء إلاَّ من جهة جهلِهم العظيم بحقيقة شريعة الإسلام، وما بعث الله به رسولَه صلى الله عليه وسلم: من تحقيق التَّوحيد وقطع أسباب الشِّرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وما أُحدثَ في الإسلام من المساجد والمشاهد على القُبور والآثار فهو من البدع المحدَثة في الإسلام من فعلِ من لم يعرف شريعةَ الإسلام، وما بَعث الله به محمَّدًا من كمال التَّوحيد وإخلاص الدِّين لله، وسدِّ أبواب الشِّرك الَّتي يفتحها الشَّيطان لبني آدم؛ ولهذا يوجد مَن كان أبعدَ عن التَّوحيد وإخلاص الدِّين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيمًا لمواضع الشِّرك؛ فالعارفون بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتَّوحيد وإخلاص الدِّين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشِّرك والبدع» ([6]).
والمتأمِّل في واقع النَّاس اليوم يدرك يقينًا أنَّ الَّذي أخذ بنصيب وافر من هذه البلايا والشِّركيات هم المتصوِّفة والرَّافضة، وما ذاك إلاَّ لقلَّة نصيبهم من العلم الموروث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعدم عنايتهم بالسُّنَّة والحديث.
اللهم أظهر دينَك وكتابَك وسنَّة نبيِّك صلى الله عليه وسلم وعبادَك الصالحين.
([1]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن اعتقد أنَّ الطَّواف بغيرها مشروع، فهو شرٌّ ممَّن يعتقد جواز الصَّلاة إلى غير الكعبة» الفتاوى (27/ 10).
([2]) ذكر الإمام ابن القيم معاني جليلةٍ، ومقاصدَ نبيلةٍ، وفوائدَ نفيسة اشتملت عليها هذه الكلمات العظيمة بلغ بها إحدى وعشرين فائدة في كتابه «تهذيب السُّنن» (5/ 177 ـ 182).
([3]) رواه البخاري 1723 ومسلم 1350.
([4]) «صحيح الجامع» (7882).
([5]) البخاري 1597، مسلم 1270.
([6]) مجموع الفتاوى 17/ 497.
¥