ففي صحيح البخاري عن أبن عباس – رضي الله عنهما – قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون: انه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا مابين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم))
وفي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم: (حتى إذا أتينا البيت معه أستلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا ... الحديث)).
وبهذين النصين يتبين أن الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى في طواف العمرة وطواف القدوم مما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك عامه أهل العلم إلا من شذ، وان ترك الرمل في الأشواط الأول ولم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب، ولا يلزم بتركه دم على الأظهر، لعدم الدليل، خلافا لمن أوجب فيه الدم.
تنبيهان:
الأول: إن قيل ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها والغالب أطراد العلة وانعكاسها، بحيث يدور معها المعلل بها وجودا وعدما؟
فالجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر بها المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف كما قال تعالى ((واذكروا إذ أنتم قليلا مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره)). وقال تعالى عن نبيه شعيب: ((واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم)) (1).
ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها، والعلم عند الله تعالى.
الثاني: أعلم أن الروايات الثابتة في الصحيح في الرمل، ظاهرها الاختلاف، لأن في بعضها أن الرمل ليس في الشوط كله، بل ما بين الركنين اليمانيين لا رمل فيه، فعند مسلم عن أبن عباس - رضي الله عنهما- قال: ((قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: انه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شده، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم ... )) الحديث
فحديث أبن عباس هذا فيه التصريح بأنهم لم يرملوا فيما بين الركنين وقد بين أبن عباس علة ذلك وهي قوله: فجلسوا مما يلي الحجر فحينئذ، تحول الكعبة بينهم وبينه، وإذا كانوا لا يرونهم، مشوا، فإذا ظهروا لهم عند ركن الحجر رملوا. مع أن في الروايات الصحيحة: أنه صلى الله عليه وسلم رمل الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر.
ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا , ومشى أربعا)) ا. هـ
والجواب:
أن حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع , وما الروايات الأخرى من الرمل في كل شوط من الحجرالى الحجر , كان في حجة الوداع , كما أجاب بهذا غير واحد. وقال النووي: إن رمله صلى الله عليه وسلم في كل الشوط من الحجر الى الحجر في حجة الوداع ناسخ للمشي بين الركنين، الثابت في حديث بن عباس، لانه متأخر عنه والمتأخر ينسخ المتقدم.
قال الشنقيطي – رحمه الله -:
لايتعين النسخ الذي ذكره النووي، لما تقرر في الاصول عن جماعة من العلماء، أن الافعال لا تعارض بينها، فلا يلزم نسخ الآخر منها للأول بناء على أن الفعل لا عموم له فلا يقع في الخارج إلا شخصياً لا كلياً حتى ينافي فعلاً آخر فجائز أن يقع الفعل واجباً في وقت، وفي وقت آخر بخلافه، ومحل عدم تعارض الفعلين المذكور، مالم يقترن بالفعلين قول يدل على ثبوت الحكم وإلا كان آخر الفعلين ناسخاً للأول عند قوم، وعند آخرين لايكون ناسخاً، كما لو لم يقترن بهما قول، وعن مالك والشافعي، يصار الى الترجيح بين الفعلين إن إقترن بهما القول، وإن لم يترجح أحدهما فالتخيير بينهما.
مثال: الفعلين اللذين لم يقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم، هو مشيه صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين، ورمله في غير ذلك من الاشواط الثلاثة الاول في عمرة القضاء، مع رمله في الجميع في حجة الوداع.
ومثال: الفعلين الذين إقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم، صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على صفات متعددة مختلفة، مع أنها إقترنت في قول يدل على ثبوت الحكم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). الجاري على الاصول حسب ماذكرنا , أن طواف الاشواط كلها ليس ناسخاً للمشي بين الركنين، وأن صيغة صلاة الخوف فيها الاقوال المارة، قيل: كل صورة بعد إخرى فهي ناسخة لها، وقيل كلها صحيحة لم ينسخ منها شي، وقيل: بالترجيح بين صورها، وإن لم يترجح واحد في التخيير.
(1) ماذكره الشيخ هنا غير وجيه في كونه علة أخرى لبقاء حكم الرمل، بل الصحيح أن العلة واحدة وهي ماذكرته الأحاديث من أن المقصود من الرمل إنما هو إظهار القوة لكفار قريش، بدليل ما أخرجه البخاري عن عمر أنه قال: (فمالنا وللرمل، انما كنا راءينا المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال: شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه). فلوا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لصح قول عمر ولقلنا: إن الرمل منسوخ، ومن هنا تعلم أن التذكر ليس بعلة والله أعلم
¥