يتغنى بها شاعر الربابة في المقاهي الشعبية، وفي حلقات السمر التي يقيمها الفلاحون في جرن القرية خلال أمسيات الصيف الندية، وتتملكهم النشوة وهم يتابعون بطولات ياسين وأعماله الخارقة من أجل مقاومة الظلم ونصرة البؤساء، ثم يخيم عليهم الحزن حين يفجعون بمصرعه على أيدي "السُّودانية من فوق ظهر الهجين".
وظلت أسطورة ياسين وبهية مجالاً خصباً لخيال المؤلفين عبر الأجيال ..
كل جيل يضيف إليها ما يوافق ظروفه السياسية والاجتماعية، ويحقق حلم الشعب في ظهور البطل حتى لو كانت القصة الأصلية خالية من كل عناصر البطولة والشرف ..
وقد يدهش أصدقاء ياسين، إذا عرفوا أن بطلهم الأسطوري لم يكن سوى مجرم سفاح يحترف مهنة القتل بالأجر، ويتعيش من دماء الضحايا والأبرياء ..
وسوف تزداد دهشتهم، إذا عرفوا أن قاتل ياسين هو المجاهد الإسلامي المعروف اللواء محمد صالح حرب باشا وزير الحربية ورئيس جمعية الشبان المسلمين ......
وقد وقعت أحداث قصة مقتله حين كان صالح حرب في بداية حياته العملية بالجيش، وذهب إلى وادي حلفا ضمن بعثة عسكرية لشراء سرب من الجمال للخدمة في سلاح الهجانة، وفي أثناء عودة الضابط الشاب على رأس قطيع الجمال سمع عن قصة ياسين؟ أعنف شقي وأجرأ مجرم مشى على أرض مصر في زمنه، فقد اتخذ القتل حرفة، وإزهاق الأرواح تسلية ..
وكان يطرب كل الطرب عندما يسمع اسمه يردده الناس في خوف وفزع وهلع ويتمنى أن يكون مثل أبي زيد الهلالي.
وامتد نشاطه الإجرامي على طول مديريتي قنا وأسوان .. وفشلت جميع الحملات التي أوفدتها الحكومة للقبض على ياسين حياً أو ميتاً.
وبينما كان الضابط الشاب صالح حرب يستريح مع قطيعه من الجمال في بعض الأودية المتاخمة لجبال أسوان أبلغه أحد أتباعه أنه رأى بدوياً نائماً على بطنه عند إحدى المغارات وفي يده بندقية،
فلما ذهب يستطلع الخبر فوجئ بوابل من الرصاص ينهمر من ناحية المغارة، فأدرك على الفور أن القدر وضعه وجهاً لوجه أمام ياسين، وأنه لن يخرج من المنطقة كما دخلها .. فإما قاتلاً أو قتيلاً ..
وخطرت للضابط الشاب فكرة جريئة، فاستدار نحو قمة التل الذي يعلو فتحة المغارة وأسقط حبلاً تتدلى منه حزمة من البوص المشتعل، وحملت الريح الدخان إلى فوهة المغارة وشعر ياسين بالاختناق، فاضطر إلى الخروج منها، ودارت معركة حامية الوطيس، -وكان سلاح الهجانة في ذلك
الوقت سلاحاً بارعاً في التنشين الماهر وإصابة الهدف- فإذا أربع رصاصات في المليان .. وألقى الشقي بسلاحه فجرى نحوه الهجانة، فإذا به قد انتهى بعد أن استقرت إحدى الرصاصات في قلبه ..
ودخلوا المغارة المظلمة على أعواد الثقاب ... ففوجئوا بامرأة تصرخ ومعها طفل يولول .. فأخرجوهما،
واتضح أن المرأة المسكينة زوجة الشقي، والولد ولده، فلما علمت الزوجة بمقتل ياسين اندفعت تزغرد وتقول في حماس: بركة لي .. بركة لي ..
وظن الجميع أنها تتصنع الفرح خوفاً منهم. ولكنهم علموا أنها جادة لأنها كنت تعيش معه في خوف وبلاء.
وانتهت حياة ياسين السفاح المحترف وبقيت أسطورته في وجدان الجماهير التي تبحث دائماً عن بطل يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً
فإذا لم تجده في الحقيقة صنعته في الخيال.)
قلت: وكم في الموروث الشعبي من حكايات الأبطال - في زعمهم - ما يشاكل حقيقة ياسين ذلك القاتل الأجير؟
ويشبه هذا الياسين في إجرامه: ذلك البطل الأسطوري الآخر: (أدهم الشرقاوي)! اللص المحترف! وسارق المواشي؟ الذي قتل صاحبه من أجل فلاحة كان يهيم بحبها! وهو بعدُ لم تبلغ سِنِي عمره التاسعة عشرة! ثم انصرف إلى الإجرام! ووضع يده في يد الشيطان! وفعل الأفاعيل بالضعفاء والناس! وسنفرد الكلام عنه في (الغريبة [رقم/4]). إن شاء الله
أما ياسين صاحب بهية: فقد ذكرتْ جريدة الاهرام فى التاسع من ديسمبر عام 1905 حقيقته وخبر مقتله بما لا مزيد عليه.
والغريب: أن البعض لا يزال مصرًا على تتويج مثل هذا القاتل بطلا! واختلاق سيرة المناضلين له لتخليدها في سجل التاريخ!
ففي عام 1965 مـ قام الكاتب نجيب سرور - لأول مرة - بكتابة روايته الشعرية (ياسين وبهية).
ثم كتبها للمسرح بعنوان "يا بهية وخبريني" عام 1967مـ. وتمَّ إخراجها في نفس العام.
وعنه أخذ الناس في ترنيم أخبار ياسين في أهازيجهم وأغانيهم.
¥