وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه، أو تأباه، وتذمه أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر الحق، إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاماً.
- ولا ينبغي أن يغتر بعبادة جريج، ولا بتقوى ذي الخويصرة، ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه. من إظهار التخشع الزائد في الحد، والتنوق في تخشين الملبس، وأشياء صار العوام يستحسنونها.
وصارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها، تقبيل اليد، وتوفير التوقير، وحراسة الناموس.
وأكثرهم في خلوته؛ على غير حالته في جلوته.
وقد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة، وإذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل القرية.
فنسأل الله تعالى علماً نافعاً فهو الأصل، فمتى حصل أوجب معرفة المعبود عز وجل، وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق الإخلاص.
وأصل الأصول: العلم، وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: " أُولئكَ الّذِينَ هدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ ".
- تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقاً من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين.
أحدهما: أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها.
مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياها ذلك، فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح.
وأخفى من ذلك أن يرى - بمنعه إياها ما منع - أنه قد فضل من سواه ممن لم يمنعها ذلك، وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها.
والوجه الثاني: أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها، وأكثر ذلك أو كله مما تشتهيه.
ونحن كالوكلاء في حفظها. لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر.
ثم رب شد أوجب استرخاء، ورب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها.
وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية، ويذوب في المرارة قليلاً من الحلاوة، ويتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب. ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعاً، ومن لقمة ربما حرمت لقمات.
فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها، ولا يهمل مقودها - بل يرخي لها في وقت والطول بيده.
فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها.
فإذا رآها قد مالت ردها باللطف، فإن ونت وأبت، فبالعنف.
ويحبسها في مقام المداراة، كالزوجة التي مبني عقلها على الضعف والقلة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب.
وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم.
- رأيت من البلاء العجاب. أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة، ولا يرى أثراً للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي احتاج إلى الصبر.
وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.
ولقد عرض لي من هذا الجنس. فإنه نزلت بي نازلة. فدعوت وبالغت، فلم أر الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده.
فتارة يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب؟.
فقلت: إخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلاً.
ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة.
قالت: فسلِّني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة.
فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب، من أشياء تؤذي في الظاهر بقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي (1) ".
والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه.
¥